الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   02 أيلول 2025

| | |
الطوفان بين الفكر والنضال: حوار عربي عابر للحدود
غانية ملحيس

وافتني الكاتبة والمثقفة المغربية المتميزة نزهة الإدريسي، عضوة المنظمة المغربية لمناهضة التطبيع، برسالة كريمة أبدت فيها اهتمامها بمقالي «الطوفان بين جدل الصواب والخطأ: تفكيك الأعطاب وبناء الأفق»، المتاح على موقعي الإلكتروني: ghaniamalhees.com

وقد كان لتفاعلها أثر يتجاوز حدود التعقيب أو المشاركة العابرة، إذ بادرت بوعي ومسؤولية إلى وصل الحوار مع الدكتور هاشم عبد السلام، رئيس مركز ما وراء النيل للدراسات الاستراتيجية في السودان. بهذا الفعل الفكري الأصيل، حولت النص من تجربة فردية إلى فضاء حوار عربي مشترك. وجسدت دور “الميسّرة الفكرية” التي تخلق الجسور بين ضفاف العالم العربي، من المغرب إلى السودان وفلسطين، في مواجهة واقع التشظي والتجزئة.

إن مبادرتها هذه تسهم في إعادة بناء خريطة الوعي العربي على أسس التفاعل والتكامل، وتمنح النقاش بعده الوحدوي والنهضوي. وقد وافتني بمقال الدكتور هاشم عبد السلام، الذي تناول مقالي بقراءة تحليلية عميقة، أتشرف بنشره على صفحتي، ليس فقط للتوافق الفكري الذي أعتز به، وإنما لما جسده من وحدة معنوية وروحية عربية ممتدة. وتحطيما للحواجز المصطنعة التي خلفتها اتفاقيات سايكس- بيكو، إذ أعادا وصل ما تقطع بين أبناء الأمة.

ولا يسعني هنا إلا أن أعبر عن خالص امتناني وتقديري للكاتبين العربيين الأصيلين، على اهتمامهما بما يشغل الفلسطينيين في هذه المرحلة الأقسى من تاريخنا الفلسطيني والعربي الحديث. وأخص بالشكر الدكتور هاشم عبد السلام على إثراء المقال بتحليل مركب ومستنير، أكد فيه على البعد التاريخي - الاستراتيجي لـ«طوفان الأقصى»، وربطه بمسارات النضال والتحولات الكبرى في القرن العشرين، وهو ما يعكس فهما متقدما لمقومات التحليل الوطني والإقليمي.

إن انخراط الكتّاب العرب في هذا النقاش يثري الحوار الفلسطيني من منظور عابر للحدود القطرية، ويفتح آفاقا للتواصل والتحليل المشترك حول قضايا فلسطين ضمن الإطار العربي والإقليمي والدولي الأوسع. فقراءة الطوفان كحدث تاريخي- استراتيجي، بدل الانشغال بالجدل العقيم الذي تتقنه كثير من النخب الفلسطينية والعربية، تمثل نقلة نوعية: من التمترس حول ردود الفعل الفورية، إلى استثمار الفرصة غير المسبوقة التي أتاحها الطوفان لبناء استراتيجيات تربط المقاومة بالشعوب والمؤسسات الوطنية والقومية.  وتحول التضحيات الجسيمة إلى خيارات عملية تعزز القدرة الفلسطينية والعربية على مواجهة المشروع الاستعماري الغربي- الصهيوني- الإحلالي.

إن هذا النمط من القراءة التحليلية- النقدية، الذي يجمع بين العمق الفكري والالتزام بالواقع، هو ما نحتاجه لتطوير الفكر التحرري الفلسطيني والعربي والإنساني. وهو يشكل إضافة نوعية للنقاش، ومصدر إلهام لمواصلة العمل على قراءة الطوفان وفهم مآلاته على نحو أشمل وأعمق 

الطوفان: لحظة كاشفة ومسار تأسيسي – في تأييد رؤية د. غانية ملحيس

بقلم: دكتور هاشم عبد السلام

في مقالها العميق والمركّب "الطوفان بين جدل الصواب والخطأ: تفكيك الأعطاب وبناء الأفق"، تضعنا د. غانية ملحيس أمام ضرورة الانفكاك من سجن التوصيف السطحي، والانخراط في قراءة تاريخية–استراتيجية لواحدة من أكثر المحطات أهمية في تاريخ الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي. وقد وجدتُ في طرحها مقاربة جادة تتجاوز ثنائية "الصدمة وردّ الفعل"، لتصل إلى عمق البنية السياسية والثقافية التي تحتاجها فلسطين اليوم، وتُعيد طرح السؤال الجوهري: ماذا بعد الطوفان؟

أولًا: تجاوز الجدل العقيم – معركة الوعي قبل السلاح:

أؤيد بقوة ما تطرحه د. ملحيس حول عبثية الجدل المتواصل بعد عامين من الطوفان حول ما إذا كانت العملية صائبة أو خاطئة. فالحدث قد وقع، وكل نقاش يُبقينا أسرى لحظة ماضية دون البناء عليها يتحول إلى هروب من مواجهة الأسئلة الحقيقية: كيف نعيد بناء المشروع الوطني الفلسطيني؟ وكيف نُحوّل التضحية إلى استراتيجية؟

إنّ منطق محاكمة الفعل، الذي أُغرق فيه بعض المثقفين والفاعلين السياسيين، لا يخدم سوى إعادة إنتاج العجز، ويُسهم في تكريس الفراغ الوطني. في المقابل، ما تدعو إليه الكاتبة هو الارتقاء إلى منطق الفعل الاستراتيجي، عبر توظيف الحدث كأداة لكشف الأعطاب وبناء بدائل سياسية جدية، لا التلهي بتقارير الخسائر والجدل الأخلاقي المنزوع من السياق التاريخي.

ثانيًا: المشروع الصهيوني كامتداد إحلالي – وضوح التحليل وضرورة المواجهة:

تقدّم د. غانية تحليلًا دقيقًا لطبيعة المشروع الإسرائيلي بوصفه جزءًا من منظومة استعمارية إحلالية، لا تختلف في بنيتها عن النماذج التي شهدناها في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا. وهذا الربط مهم لأنه يعيد فلسطين إلى موقعها الكوني كحالة استعمار لم تنتهِ، في لحظة يحاول فيها النظام الدولي تسويغ ما يحدث باعتباره "صراعًا معقدًا" أو "حربًا بين طرفين".

ما يهم في هذا السياق هو تأكيد أن إسرائيل لم تتوقف يومًا عن استخدام أدوات المحو، سواء الجسدي أو الرمزي أو السياسي، وأن ما فعله الطوفان هو فضح هذا المشروع أمام العالم من جديد. أعاد تعريف الوجود الفلسطيني بوصفه مقاومة، لا مجرد قضية حقوق أو تفاوض على تفاصيل حياة يومية تحت الاحتلال.

ثالثًا: الطوفان كحدث كاشف لا مجرد هجوم عسكري:

تشير د. ملحيس بدقة إلى أن الطوفان لم يكن مجرد اختراق أمني أو عملية عسكرية، بل لحظة كاشفة كشفت عمق الانهيار في بنية النظام الرسمي الفلسطيني، وعجز النظام العربي، وتعرية السقف الدولي المتآكل، الذي طالما روّج لحقوق الإنسان والديمقراطية ثم أظهر انحيازه السافر للمشروع الصهيوني.

وهنا أتفق تمامًا على أن الطوفان أزال كثيرًا من الأقنعة: عن هشاشة السلطة الفلسطينية، وتفكك الرؤية الوطنية الجامعة، وتكلّس النخب، مقابل صعود خيار المقاومة مجددًا كمركز للفعل الشعبي الفلسطيني.

رابعًا: الطوفان والتاريخ – قرارات اللحظة تؤسس لمسار:

تضع الكاتبة الطوفان في سياق التاريخ وليس اللحظة، وهذا في رأيي من أهم ما يميّز طرحها. فالمقارنة مع لحظات حاسمة في القرن العشرين (الثورة البلشفية، حرب الجزائر، انتصار فيتنام، مقاومة جنوب إفريقيا) تؤكد أن الثورات ليست أحداثًا تقاس فقط بالنتائج الفورية، بل بقدرتها على إحداث تحول في المعادلات الكبرى.

من هنا، فإن النظر إلى الطوفان كمنعطف تاريخي يعيد بناء موازين القوى، وينقل الفلسطيني من خانة الضحية إلى موقع الفاعل، هو أساس في أي قراءة استراتيجية جادة.

خامسًا: موازين القوى – إسرائيل ليست كما كانت:

ما أوضحته د. ملحيس حول التحولات داخل إسرائيل هو جزء لا يمكن تجاهله. فالطوفان أصاب الداخل الإسرائيلي بزلزال نفسي وسياسي واستراتيجي: لم يعد "الجيش الذي لا يُقهر" كذلك، ولم تعد "الدولة الآمنة" ملاذًا، بل أصبحت ساحة قلق دائم. الأهم أن الحدث فجّر التناقضات الداخلية في المجتمع الاستيطاني، بين الديني والعلماني، بين الشرق والغرب، بين الجنرالات والساسة، وأعاد إلى الواجهة هشاشة المشروع الصهيوني من داخله.

سادسًا: تأييد المسار وضرورة البناء:

في ضوء ما سبق، فإنني أجد نفسي متفقًا مع الطرح الذي تقترحه د. ملحيس في ضرورة التعامل مع الطوفان كمنصة لإعادة تشكيل المشروع الوطني الفلسطيني، لا مجرد ردّ فعل على عدوان. المطلوب هو أن يُستثمر الحدث في بناء استراتيجية تحررية متكاملة، تتجاوز فصائلية الساحة الفلسطينية، وتُعيد الاعتبار لمشروع سياسي- تحرري واسع، يربط بين المقاومة والشعب والشتات والمؤسسات الوطنية على قاعدة وحدة الهدف والمصير.

خاتمة:

مقالة د. غانية ملحيس لا تفتح بابا للجدل، بل تفتحه للفهم والعمل. 

الطوفان، كما تراه، ليس حادثا عابرا، بل مفترق طرق. وإذا لم نقرأه من زاوية الفعل التأسيسي، فإننا نعيد إنتاج خسائرنا الماضية. وفي هذا أجد أن الطرح الذي قدّمته د. ملحيس يُعد من أكثر الطروحات جدية واتزانا في قراءة الطوفان ومآلاته، ويستحق أن يُبنى عليه نقاش فلسطيني - عربي واسع يخرجنا من الجدل إلى العمل، ومن ردود الفعل إلى صناعة المسار.

 

مشاركة: