سؤال جدوى الكتابة
في مواجهة هول يفوق اللغة ويقهر البيان، يثور سؤال جدوى الكتابة:
هل للكلمة أي معنى حين يعجز الإنسان عن انتشال طفل من تحت الركام أو إطعام جائع يترنح من شدة الجوع؟
وهل تستطيع الحروف أن توقف الإبادة في قطاع غزة، بينما تنقل وسائل الإعلام وقائعها بالبث الحي لحظة بلحظة إلى كافة بقاع الأرض. من دون أن يرف جفن للضمير العالمي؟
المعضلة الأخلاقية للمثقف
يواجه المثقف (كل من يشارك في تشكيل الرأي والوعي العام) منذ اللحظة الأولى للعدوان معضلة أخلاقية: بين صمت يتذرع به بعضهم باختلافهم الأيديولوجي مع فصائل المقاومة. وبين الكتابة التي قد تبدو عاجزة، لكنها رغم محدوديتها أمام الدماء، تظل شاهدة على الإنسانية، وفعل مقاومة وضمير حي.
الكتابة كقوة ضد النسيان
الكتابة ليست ترفا، وليست تمرينا بلاغيا على زخرفة الحروف. إنها موقف وانحياز ومقاومة ثقافية. ورسالة تذكّرنا أن الدماء التي تراق، والضحايا التي تباد ليسوا مجرد أرقام في نشرات الأخبار، بل حياة كاملة تسفك ظلما.
بهذا المعنى، فكل مقال، أو نص شعري، أو رسالة توثق الأحداث، وعد مضاد للنسيان، وحفظ للحقيقة، وإشعال ضوء الوعي في أعمق الظلمات.
الكتابة كموقف وانحياز
الجسر بين الفرد والمجتمع
قد تبدو الكتابة التي توثق التجارب الفلسطينية على مر العقود في زمن المجازر وكأنها صرخة في واد، أو عزاء باهتا أمام فيضان الدم. لكنها في حقيقتها أكثر من ذلك. فهي جسر يربط بين الألم الفردي والذاكرة الجمعية، وهي السجل الحي الذي يدين الجلاد ويمنح الضحية صوتا لا يموت.
الكلمة كفعل مقاوم
فالكتابة هنا ليست مجرد نقل للوقائع، بل هي موقف واضح وانحياز لا لبس فيه للحق وللمظلومين. إنها فعل مقاومة يبقي الضمير حيا، من خلال شهادات مكتوبة أو تقارير توثق المجازر أمام الدماء. تظل شاهدة على الإنسانية،
وتذكّر الجميع بمسؤوليته عن الدم الفلسطيني المسفوك في قطاع غزة ومخيمات الضفة.
خطر الصمت والخيانة الأخلاقية
في المقابل، فإن الصمت السياسي والإعلامي الفلسطيني أو العربي أو الدولي، أو التغاضي عن الجرائم، أو التشفّي باسم الحسابات السياسية يعد خيانة أخلاقية للكلمة وللشعب وللحقيقة نفسها. فالكتابة هنا تتجاوز حدود التعبير الفني أو البلاغة، لتصبح أداة لمواجهة الظلم، وسلاحا يوازي في أثره الرمزي فعل المقاومة في الميدان.
الكلمة كسلطة ضد التزوير
كل كلمة تُكتب، كل قصة تروى، هي رسالة مفادها أننا لم نستسلم. وأن ذاكرة الضحايا حيّة في وجداننا، تنتظر أن يسمعها العالم.
إن سلطة الكلمة تكمن في قدرتها على زعزعة الرواية الرسمية المزيفة. وفضح المستور، وكشف التواطؤ الذي يسعى إلى تبرير الجرائم أو التغطية عليها وتعرية المتخاذلين تحت أي ذريعة.
غزة كمثال حي على جدوى الكتابة
الكتابة بين الركام والأمل
رغم الركام والحصار، تقدّم غزة المثال الأبلغ على قدرة الكلمة على الصمود والمقاومة. فالناس هناك يواصلون كتابة رسائلهم اليومية شعرا ونثرا ومدونات من بين الأنقاض، لتتحول الكلمات إلى أجنحة تتجاوز حدود القهر والدمار.
الأشعار والرسائل والمدونات ليست مجرد حروف على الورق أو على شاشات الهاتف، بل هي دليل على استمرارية الحياة، ورفض الانكسار، ووسيلة للاحتفاظ بالأمل حتى في أحلك اللحظات. هذه الكتابات تعكس روح المقاومة اليومية، وتشكل جزءا مهما من النضال الثقافي والسياسي.
الكتابة فعل وجود
في غزة، الكتابة فعل وجود. كل قصة تروى، كل كلمة تسجل، تحمل مقاومة صامتة لكنها قوية، تحفظ ذاكرة الضحايا حيّة، وتثبت أن الإنسان قادر على التعبير عن نفسه حتى حين يعجز عن تغيير واقعه المباشر.
عاهد حلس، أكرم الصوراني، شجاع الصفدي، محمد الذهبي، محمد عمران الأسطل، بسام سعيد، ديانا الشناوي، أحمد ناصر، عثمان حسين، عبد زهران، حسن القطراوي، محمود زكي العمودي، أسامة ابو الجود، أشرف نصر، حكمت عليان المصري، محمود عبد المجيد عساف، جواد العقاد، وليد العوض، وعشرات آخرون ما يزالون يواصلون الكتابة. كلماتهم تمد جسرا بين الضحايا والعالم الخارجي، وتدعو الآخرين إلى رؤية الحقيقة، والتفاعل معها، والمساءلة أمامها.
الكتابة كأداة للوعي الجمعي والمساءلة
التوثيق وبناء الوعي
الكتابة في زمن الإبادة ليست مجرد توثيق للوقائع، بل هي وسيلة لبناء الوعي الجمعي، وكشف الحقيقة كما هي أمام الأجيال القادمة. وتبصيرها بأسباب تشكّل الواقع المظلم، وفضح أدوار جميع الطغاة: المجرم، والمشارك، والداعم، والمتواطئ، والصامت.
كشف الأعطاب الداخلية
كما أنها تكشف أعطابنا البنيوية الداخلية: من انقسامات سياسية، وتخاذل مؤسساتي، وتخلّ عن المسؤولية. بذلك تدفع الكتابة نحو مواجهة هشاشتنا، وإعادة ضبط البوصلة التحررية التي انحرفت منذ عقود.
الكاتب والمثقف العضوي
هنا تبرز وظيفة الكاتب والمثقف العضوي، الذي لا يكتفي بالتشخيص أو التحليل من خلال المقالات، الدراسات، الأعمال الأدبية، والنشاط المجتمعي. بل يلتقط من الشعر والأدب والفنّ إشارات الحياة، ويحوّلها إلى وثائق مقاومة حيّة. إن مسؤوليته تتجاوز التنظير إلى بلورة رؤى وبرامج عمل، تستند إلى الحقوق الوطنية والتاريخية غير القابلة للتصرّف للشعوب في أوطانها.
الكتابة كأداة استراتيجية
حين تخرج الكتابة من دائرة النواح والرثاء إلى التوثيق والتحليل وتوظيف الاستخلاصات في بلورة الأهداف الوطنية الجامعة وفق القاسم المشترك الأعظم لكافة مكونات الشعب الفلسطيني، داخل الوطن وخارجه. وتنتقل من التنظير إلى التخطيط والبرمجة، تصبح أداة استراتيجية لتجسيد المقاومة الثقافية والسياسية وبناء الوعي والتأسيس للتغيير.
تحويل الحقوق إلى برامج عمل
بهذا المعنى، تتحول الحقوق الكبرى - الحق في الحياة، الحرية، العدالة، الكرامة، المساواة الحقوقية، وتقرير المصير - إلى برامج ملموسة قابلة للتحقق، وفق جداول زمنية واقعية معلومة، ووسائل تعبئة وتنظيم.
من المتفرج إلى الفاعل
تقدير التضحيات على أهميته لا يكون بوصف جسامتها بالكلمات، بل بتأمين مقومات الصمود لخفض الكلفة البشرية والمادية. وإشراك الناس في الدفاع عن أنفسهم ومصالحهم، وتحويلهم من متفرجين على آلامهم إلى فاعلين في صنع مصيرهم.
هكذا تتحول الكلمات إلى أدوات فعل، تترجم المعاناة إلى قوة، والصمود إلى مشروع مستدام. والوعي إلى أدوات تنفيذية تغيّر الواقع وتعيد للبوصلة التحررية اتجاهها الصحيح.
فالكتابة ليست فقط شهادة، بل فعل يغير الواقع، ويؤسس لمستقبل مختلف مرغوب. وبها يحيى الضمير ويصنع الأمل في أصعب اللحظات.