الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   07 أيلول 2025

| | |
من الشهادة إلى الفعل: الكتابة الفلسطينية في زمن الإبادة
غانية ملحيس

لم يكن السؤال حول جدوى الكتابة جديدا، لكن تكراره في زمن الإبادة جعل منه قضية جماعية لا يمكن تجاوزها. وقد فجر نقاشا حيّا امتد من قلب النار داخل غزة إلى خارجها. متجاوزا الساحة الفلسطينية ليشمل مثقفين من مصر والسعودية وتونس والمغرب شاركوا المقالات والنقاشات على صفحاتهم الشخصية. وتحوّل السؤال إلى منبر جماعي تتلاقى عنده الشهادات والمواقف، في محاولة لفهم معنى الكلمة حين يصبح الوجود ذاته مهددا بالمحو.

 الكتابة في قلب النار

  من بيت النار حيث تتضافر مفاعيل الإبادة والدمار والجوع معا، في تعقب الفلسطينيين المستهدفين بالمحو منذ أكثر من قرن. وبلغت ذروتها في الجولة الأخيرة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، لاستكمال اقتلاعهم من الجغرافيا والتاريخ والذاكرة. 

ومن المسافة الصفرية للفقد والألم. يواصل الشعراء والكتاب والمدونين الغزيين على مدى 702 يوم، الكتابة من تحت الركام. ويشهدون على ما بلغته الحداثة الغربية المادية العنصرية من وحشية فاقت كل ما خبرته البشرية منذ بدء الخلق. ويوثقون بالشعر والنثر تجليات العقل الأداتي للعرق الأبيض في القرن الواحد والعشرين. وينقلون شهادات حول ما يجري وتشاهده البشريه على امتداد الكرة الأرضية بالبث الحي لحظة حدوثه ولا تحرك ساكنا. ويسجلوها بمداد الدم على الورق وعبر شاشات الهاتف. قاطعين الطريق على كل مدع بأنه لم ير ولم يسمع. 

ومنذ اليوم الأول للمقتلة، لم تكن كتابة الغزيين مجرد شهادات يوثقها الشعراء والكتاب: كعاهد حلس، وأكرم الصوراني، وشجاع الصفدي، ومحمد موسى، ووليد عوض، وآلاء القطراوي، وتوفيق العيسى، وحكمت عليان المصري، ويسري الغول، ومحمد الذهبي، ومحمود زكي العمودي، وأسامة أبو الجود، ومحمود عبد المجيد عساف، وجواد العقاد، وبسام سعيد وعشرات آخرين، ما يزالون يواصلون الكتابة.  

بل كتبوا وصاياهم وكأنهم ينتظرون الموت كل لحظة، لمن قد ينجو، وللمراقبين الصامتين من الأهل وذوي القربى: فلسطينيين وعربا ومسلمين وما تبقى من إنسان على كوكب الأرض. محذرينهم مما ينتظرهم، إن مكنوا ورثة الطغاة من استنساخ نماذج الإبادة لأسلافهم في القرن الخامس عشر ضد شعوب الأمريكتين وأستراليا ونيوزيلندا. ومذكرين أنهم - إن واصلوا الإفلات من العقاب كما اعتادوا على مدى القرون الخمسة الماضية - فلن يقفوا عند حدود غزة والضفة الغربية وسائر فلسطين وجوارها العربي. ولن يسلم أحدا إن اكتفوا بمراقبة أطفال ونساء وشيوخ وشباب غزة وهم يذبحون من الوريد إلى الوريد. ومساكنها وأبراجها ومستشفياتها ومدارسها وكنائسها وجوامعها وتراثها يدمر، وطرقاتها تجرف وأشجارها تقتلع وزرعها يستأصل. لتمهيد المكان للمقاول الأبيض، الذي لا يرى في الوجود هدفا سوى إبرام الصفقات المربحة التي تمليها القوة القاهرة.

أصداء الخارج وتكامل الأصوات

وعلى الضفة الأخرى، تجاوب معهم بعض الكتّاب والأدباء والشعراء من خارج القطاع أبرزهم: عادل الأسطة وسميح محسن، ورفعت العرير، وبتول أبو عقيل، وعادل سمارة، ومصطفى إبراهيم، وخالد عطية، وعواد أبو زينة، وصبري حجير، وأكرم عطا الله، وراسم عبيدات، ورمزي بارود، وهيّا أبو ناصر، ويحيى بركات، ومصعب أبو توهة، وتميم البرغوثي، وعبد المجيد سويلم، وغسان جابر، ونزهة الرملاوي وكاتبة المقال، وآخرين. واكبوا كتاب غزة، وشكلوا صدى لأصواتهم، وحملوا شهاداتهم. وأرقهم كثيرا الفارق بين الكتابة من قلب النار والكتابة عنه، وانضم إليهم عشرات المعقبين على المقالات.

هذا التداخل بين الداخل والخارج أغنى النقاش، وفتح الأفق لتفعيل دورالكتابة في إعادة بناء الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي والعالمي وتنقيته مما علق به من شوائب.

بين الشهادة والفعل

أبرزت النقاشات ملاحظات عديدة ونقلتها من السؤال حول جدوى الكتابة في زمن الإبادة إلى الإقرار بأهميتها الحيوية كفعل مقاومة. بل وضرورتها الحتمية، كما قال الصديق سميح محسن في مقاله المعنون" من جدوى الكتابة الى ضرورتها الحتمية ".

وأراها شخصيا تتجاوز كل ذلك، لأنها تعيدنا إلى جوهر العلاقة بين الكتابة والفعل. بين التسجيل والتوثيق والخيال من جهة، وبين التخطيط والممارسة من جهة أخرى.  وتفتح، بذلك، مساحات للأسئلة الكبرى.

فالكلمة، ليست فقط حارسا للذاكرة، ولا مجرد بوح فردي، بل فعل نهوض، وضوء يضيء الدرب في زمن الظلام.

والكتابة التي تكتفي بالانفعال تبقى مرآة للألم. أما الكتابة التي تنبثق منها رؤية، وتستولد من الحكاية سؤالا، ومن السؤال مساءلة حول أوجه العطب الذاتي، ومن المساءلة مشروعا للتغيير، تتحول إلى طاقة فعل تغييري. عندها تصبح الكتابة والفكر والثقافة والأدب والشعر والفن جزءا من معمار الوعي الجمعي، وخطوة في طريق التحرير لا مجرد شهادة على الخراب. لكن هذا الوعي لا يكتمل إلا إذا تحوّل إلى بنى ومؤسسات تحفظه وتفعّله.

أوسلو وانكسار السردية الجماعية

وقد ذكّر النقاش بأن اتفاق أوسلو شوه الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي والعالمي. وشكل لحظة قطيعة مع السردية الأصلية الجماعية الفلسطينية.  تماما كما فتّت الجغرافيا والسياسة. 

فقد انقسم الكتاب الفلسطينيون داخل الوطن وخارجه وفقا لانتماءاتهم السياسية والتنظيمية. وتقوقع بعضهم على الذات طلبا للسلامة. وفقدت الثقافة والأدب الفلسطيني المقاوم وحدتها التي حفظت الهوية الوطنية الفلسطينية، وحافظت على التماسك المجتمعي على مدى عقود بعد النكبة. وأشعلت جذوة المقاومة وألهمت الثوار. 

وأسهم الانقسام الفلسطيني: الجغرافي والسياسي والثقافي والمؤسسي، وانخراط النخب المتغربة بتصفية الحسابات السياسية والشخصية في تشويه الوعي، وتسهيل الاستفراد الأمريكي الغربي الصهيوني بقطاع غزة. وأوغلوا في ضلالهم حد التواطؤ، حتى عندما كشفت حرب الإبادة، التي بلغت ذروتها في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، أن الهدف الغربي الصهيوني لم يعد حسم الصراع بالتدريج كما جرى على مدى أكثر من قرن. بل بات إنهاؤه هدفا مركزيا لنظام الحداثة المادية الغربي العنصري المهيمن، منذ تولى دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية عام 2016، واتخاذ القرار بإخراج فلسطين جغرافيا وديموغرافيا من معادلة المنطقة، لاستكمال استيلاد الشرق أوسط الجديد، وفقا للخطة الأمريكية الغربية الصهيونية، بدعم إقليمي وتواطؤ النظام العربي الرسمي.

 خطة الحسم: من سموتريتش إلى صفقة القرن

وبالعودة الى التطورات منذ العام 2014، الذي أنهت فيه إسرائيل بدعم أمريكي وغربي مسار التفاوض الفلسطيني - الإسرائيلي، برفض تنفيذ الاتفاق التعاقدي مع رئيس السلطة الفلسطينية المسالم، الذي تولى قيادة السلطة إثر الانتخابات الرئاسية عام 2005، بعد إزاحة الرئيس المشاكس عرفات من المشهد السياسي عندما أذن الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن لشارون بمد العون لعزرائيل لتسهيل استبدال النظام السياسي الفلسطيني المقاوم بآخرمهادن. والتهيئة لانقسام النظام السياسي عبر الانسحاب الأحادي من قطاع غزة واستدراج حماس لخوض الانتخابات التشريعية عام 2006، التي كانت كلّ الدلائل تشير الى احتمال فوزها بسبب انغلاق أفق التسوية السياسية. والانقلاب على نتائج الانتخابات إن استعصى تدجين حماس وإلحاقها بمسار أوسلو الذي لم يبق منه الا التنسيق الأمني لمقايضة الاحتياجات المعيشية بالحقوق الوطنية. فتعزز الانقسام الجغرافي بانقسام سياسي وإداري، وحظي التنافس بين قطبي النظام برعاية سياسية ومالية دولية، توزعت فيها الأدوار عربيا ودوليا لتعميقه ومأسسته. وتجذربفرض حصار شامل بري وبحري وجوي على قطاع غزة، وخمسة حروب متتالية لترويضه، حيدت فيها الضفة الغربية، بل وشاركت السلطة الفلسطينية في قمع تمرد الفتية المقاومين بالسكاكين، ونشط التنسيق الأمني مع إسرائيل بالتوازي مع النمو الاستيطاني اليهودي في الضفة الغربية جغرافيا وديموغرافيا.

وترافق ذلك مع تنامي الحضور السياسي للصهيونية الدينية بشقيها المسيحي الذي أوصل دونالد ترامب إلى الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2016. واليهودي في إسرائيل وبروز بتسلئيل سموتريتش كزعيم، وتقديمه “خطة الحسم” عام 2017، بالإنكار الكامل للحقوق الوطنية الفلسطينية، وعدم الاعتراف بوجود شعب فلسطيني، والنكر لحقه في تقرير المصير. وإعلان رؤيته أن كل أرض فلسطين الانتدابية من النهر إلى البحر هي ملك حصري للشعب اليهودي بموجب “الكتاب المقدس”، وجزء من أرض إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل. وتخييره الفلسطينيين بين ثلاث مسارات:

•   الخضوع: القبول بالعيش، كافراد فقط، تحت السيادة اليهودية من دون حقوق قومية أو سياسية

•   الهجرة: مغادرة “أرض إسرائيل” والعيش في أي مكان آخر في العالم.

•   المقاومة: من يختار المقاومة، حتى السلمية، سيتم التعامل معه كعدو ويواجه “اليد الحديدية”، بما يشمل القتل أو التهجير أو كلاهما.

لم يكن دونالد ترامب نبتا بريا في الولايات المتحدة الأمريكية، بل جاءت به إلى سدة الرئاسة انتخابات ديموقراطية عكست البنية المجتمعية التحتية الأمريكية. كما لم يكن سموتريتش وبن غفير، نبتة شيطانيّة في المجمع الاستيطاني الصهيوني، أو شخصيات متطرفة ومهووسة دينيا كما يحاول الإعلام الدولي والعربي والفلسطيني تصويرهم.  بل كانوا انعكاسا دقيقا لتطورالفاشية الصهيونىة، والذي كان قد حذر منها عديد من النخب الفكرية والثقافية الإسرائيلية على مدى سنوات. بل وشاركهم بعض المسؤولين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين الذين استشعروا سطوة اليمين الاستيطاني القومي والديني الصهيوني، وخطره الذي لن يقتصر على فلسطينيي الضفة والقدس والقطاع، بل سيطال يهود إسرائيل العلمانيين الاشكناز. وتحققت مخاوفهم عندما تنامت سيطرة اليمين القومي والديني عبر خمس انتخابات متتالية خلال أربع سنوات، تدرج فيها في مواقع القرار وانتهت باستئثاره بالحكم في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 2022.

فحسم الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي بالقوة سلما او حربا قرار مشترك دخل حيز التنفيذ العملي بفعل التزامن بين سيطرة الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية، والصهيونية اليهودية في المجمع الاستيطاني اليهودي في فلسطين.  وقد بادر إلى تنفيذه ترامب بصفقة القرن في مطلع عام 2020، بالاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، والموافقة على ضم إسرائيل للمستوطنات في الضفة الغربية وغور الأردن، وإسقاط حق العودة للاجئين الفلسطينيين وتوطينهم حيث هم. وبمطالبة من يعيش من الفلسطينيين داخل فلسطين بالاعتراف بالدولة اليهودية، وضم الدول العربية تباعا إلى الاتفاقات الإبراهيمية، باعتباره ذلك جزءا من الحل الإقليمي الأوسع. 

وتبعه قادة الكيان الصهيونى بعد سيطرة الائتلاف القومي الديني على الحكم في إسرائيل بالانقلاب القضائي، الذي عمق التصدع داخل المجتمع الصهيوني.  ليس اختلافا على مبدأ محو الشعب الفلسطيني، الذي يحظى بتوافق يهود اسرائيل حد الإجماع. وإنما لخلاف داخل الصهيونية اليهودية العلمانية والدينية على هوية إسرائيل وديموقراطيتها.

فخطة حسم الصراع كانت قائمة قبل الطوفان بسنوات، من خلال فرض أمر واقع بالقوة. فالطوفان لم يوفر الذريعة كما يروج المتواطئون من بني جلدتنا، ولم يخلق العنف. فقد سبقه:

·   إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن في 9/9/2023 عن مشروع إنشاء ممر اقتصادي ضخم يربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا خلال قمة مجموعة العشرين (G20) التي انعقدت في نيودلهي، وقد تقرر أن يشمل الممر الهند ومجموعة من الدول العربية مثل السعودية والإمارات والأردن، بالإضافة إلى إسرائيل والاتحاد الأوروبي، من أجل تعزيز التجارة ونقل الطاقة وتحسين الربط الرقمي. لا مكان فيه لفلسطين وشعبها في أي ترتيبات مستقبلية للمنطقة. وقطع الطريق على مشروع الحزام والطريق الذي تقوده الصين منذ 2013، لربط آسيا بأفريقيا وأوروبا عبر شبكات برية وبحرية.

·   وخطاب نتنياهو في 22/9/2023 في الجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي افتتحه بالتذكير بحديثه السابق عن “لعنة إيران النووية”، ثم تحول إلى “نعمة الشرق الأوسط الجديد” التي يجسدها تطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية والدول العربية الأخرى، وانضمامها للاتفاقات الإبراهيمية، والذي سيكون نقطة تحول شاملة، واصفا إياه بأنه “يخلق خيرا حقيقيا للشرق الأوسط”. مشدّدا على أنه “لا ينبغي للفلسطينيين أن يكون لهم حق في تعطيلها”. رافعا بيده خريطة الشرق الأوسط الجديد التي تغيب عنها الضفة الغربية وقطاع غزة.

الذاكرة إن لم تتحول إلى مشروع

 هذه الإطالة التي كانت ضرورية للتذكير فلسطينيا بوجوب إعادة وصل ما قطعته أوسلو: بابتكار لغة جديدة تستعيد البعد الجماعي دون أن تلغي خصوصية المكونات الفلسطينية داخل الوطن وخارجه، ودور كل مكون في قيادة النضال الوطني في المراحل المختلفة وفقا للتطورات الميدانية. ودون أن تغفل أن أحد أسباب نكباتنا المتواصلة على امتداد قرن كانت سعي القيادة الفلسطينية المركزية إلى تصدرالمشهد دون أن تمتلك شروط ومستلزمات قيادة المشروع الوطني التحرري. وأن قفزها إلى الصدارة، أجهض فرص التقدم في مسيرة النضال الفلسطيني- الذي قدمت فيه الأجيال الفلسطينية المتتابعة تضحيات جسيمة-، وكان ممكنا تحقيق منجزات سياسية، لولا الجهل المعرفي لأصحاب القرار بطبيعة الصراع الوجودي مع استعمار إحلالي وظيفي، والذاتية المفرطة للقيادة المركزية، وسعيها لإقصاء كل من تعتقده منافسا قد يهدد تفردها بالقيادة. وإغفال حقيقة أن المشروع الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري الإحلالي، لا يستهدف محو كامل الوجود الفلسطيني أرضا وشعبا فحسب، وإنما يراه خطوة مركزية في استكمال تنفيذ مشروعه العام لإخضاع عموم المنطقة العربية - الإسلامية الممتدة، واستئصال هويتها الحضارية الجامعة، واستبدالها بحضارته المادية الغربية، كما جرى في شمال الكرة الأرضية ومعظم جنوبها، وعولمتها.

فالذاكرة إن لم تصغ في مشروع مقاوم، تتحول إلى متحف صامت، بينما المطلوب أن تكون بوصلة للتخطيط.

وطوفان الأقصى، فقط، كشف حقيقة عدم جدوى محاولات الحسم بالقوة السلمية، وجعل احتمال وقوع صدام مفتوحا وواسعا.

المثقف العضوي وأسئلة القيادة

كما طُرح في النقاش سؤال محوري: من يقود المرحلة في لحظة الإبادة؟ السياسي والعسكري، أم المفكر والمثقف والكاتب والشاعر والفنان؟

لقد بدا واضحا من تجربتنا الفلسطينية المريرة على امتداد أكثر من قرن. أن استئثار أي طرف بالقيادة يقود إلى اختلال البوصلة:

· فالسياسي حين ينفرد يقع في فخ الواقعية المفرطة والتسويات المجتزأة.

· والمفكر والمثقف حين ينعزل يتحول إلى صوت في الفراغ.

                                                                          

المطلوب إذن ليس منافسة، بل تكامل يربط بين القرار والفكر، بين الوعي والمعرفة، بين الفعل والرؤية. وبين الرؤية والممارسة. وأخطر اللحظات هي حين تنحرف البوصلة السياسية. عندها تتأكد مسؤولية المفكر والمثقف في دق جرس الإنذار، ليس بديلا عن السياسي، بل مكملا مرشدا للوعي. ويقتضي ذلك بناء قنوات اتصال واضحة بين السياسي والمفكر والمثقف والكاتب والفنان، وصياغة ميثاق عمل مرن يمكن تطويره بالتجربة.

من القول إلى البرنامج: مسارات عملية لتفعيل دور الكتابة

ولكيلا يبقى النقاش حول الكتابة في حيز التنظير، بات ضروريا تطويره وتوجيهه لمسارات يمكن تجربتها.  فالوعي لا يكتمل إلا إذا تحوّل إلى بنى ومؤسسات تحفظه وتفعّله، وإلا يبقى صوتا حادا لكنه يتلاشى في الفراغ. وفيما يلي بعض المقترحات المطروحة للمناقشة بين الكتاب على أوسع نطاق:

1) منصة التوثيق المفتوحة: يمكن إنشاء فضاء إليكتروني مفتوح يشبه 'دفترا جماعيا’ تتلاقى فيه شهادات الناس وكتاباتهم وأصواتهم، بحيث لا تضيع التفاصيل الصغيرة وسط الخراب، بل تصان وتتاح لمن يريد البناء عليها.

2) مختبر الكتابة والتحويل: تخيّل أن اليوميات، المكتوبة تحت القصف، تجد من يساعدها على التحول إلى قصص أو مقالات أو أوراق سياسات، مختبر حي يرافق الكلمة منذ لحظة بوحها الأولى حتى تصبح نصا قادرا على الوصول للآخرين.

3) وحدة الترجمة والتداول العالمي: ما يُكتب بالعربية يحتاج أن يعبُر إلى لغات أخرى، ليصل إلى الضمير الإنساني ويتجاوز الحدود.

4) مرصد الخطاب والسياسات: وجود عين ساهرة تتابع ما يُقال عن فلسطين في الإعلام والسياسة يمكن أن يربط بين البحث الأكاديمي والفعل الميداني.

5) دليل أسلوبي وميثاق أخلاقي: الاتفاق حول تسمية الأشياء بأسمائها، وحماية الشهود، وتجنب التوازن الزائف هو البوصلة الأخلاقية والنقدية للكتابة.

6) بوابة بيانات مفتوحة للباحثين: فالشهادات والبيانات الدقيقة حول القصف والتهجير والهدم توفر أدوات لبناء دراسات ودعاوى حقوقية قائمة على الوقائع. 

7) قياس الأثر والحوكمة: مراجعات دورية بسيطة تساعد على تقييم ما جمع من شهادات وما ترجم وما نشر، كبوصلة لتصحيح المسار واستمرار الفعل: التحرير.

بهذه الأدوات، تصبح الكتابة عتلة تنقل الوعي من الاستدعاء الأخلاقي إلى التغيير المؤسسي الملموس

من الذاكرة إلى المستقبل

إن اللحظة الفلسطينية الراهنة، بما تحمله من تهديد وجودي، لا تسمح بالبقاء أسرى الوصف أو التحسر. التحدي هو أن ننتقل من صيانة الذاكرة إلى إنتاج معرفة منظمة، من خلال منصات نشر جماعية، مختبرات كتابة ترافق اليوميات منذ تدوينها، وحدات ترجمة تأخذ الرواية إلى فضاءات جديدة، ومرصد يحوّل الخلاصات إلى توصيات يمكن تبنّيها، مع مراجعات دورية تقيس أثر كل خطوة عمليا. 

عند هذا الحدّ تتجسّد جدوى الكتابة ليس بوصفها شاهدا فحسب، بل بوصفها محركا لخطة عامة تقاس بمخرجاتها. وتتحوّل الكتابة من رد فعل على الخراب إلى فعل تأسيسي لمستقبل جماعي، يضع الكلمة في صميم معركة التحرير. وتخطيطا واعيا لمستقبل يستحق التضحية. 

 

مشاركة: