الصديق العزيز شجاع
قرأت رسالتك باهتمام كبير، وأفهم غضبك وألمك وألم كل الغزيين، ولا يمكن لأي قلم أو كلمة أن توازي وجع الدم اليومي الذي تعيشونه تحت الإبادة. ما يجري ليس مشهدا عابرا، بل سحق منظم لشعب أعزل ترك وحيدا ليواجه خمس حروب متتالية خلال اقل من عقدين من عدو وجودي، بينما الكثيرون من محيطه القريب والبعيد تواطؤوا أو صمتوا أو شاركوا في حصاره، وما يزالون، أمام الإبادة. وكل كلمة أكتبها أحملها كدين أمام هذا الدم.
لكنني، في مواجهة هذا الجرح، أرفض أن يختزل كل ما يحدث في شعار واحد: أن المقاومة انتحار. فحين نصف مقاومة استعمار إحلالي بأنها “انتحار”،
- أليس في ذلك خلط خطير بين الموت المجاني والموت في سياق الدفاع عن الحق والوجود؟
- هل يترك لنا مشروع استعماري صهيوني إحلالي يقوم على نفينا كجماعة وكمكان وهوية خيارا آخر غير المواجهة؟
- وهل حتى خيار “السلامة الفردية” متاح عندما لا يعترف لك المستعمر بحق الوجود أصلا، ويعتبر أرضك ملكية حصرية له بوعد إلهي لا يخضع للنقاش بين البشر؟
المعركة ليست خيارا بين الموت والحياة، بل بين موت بلا معنى وموت يفتح أفقا للحياة. والقول بأن المقاومة انتحار يعني، في الجوهر: استسلموا لمحوكم كي تبقوا أحياء بيولوجيا. لكن حتى هذا البقاء البيولوجي مهدد حين يستشعر المستعمر خطر التوازن الديموغرافي. بل وما معنى البقاء إن لم يكن مشبعا بالحرية والسيادة والكرامة؟
حين توقفت المقاومة عام 1939، هل توقفت المجازر؟
وهل النكبة عام 1948 كانت نتيجة “كثرة المقاومة” أم العكس؟
الانتحار الحقيقي هو الاستسلام، لأنه يسلّم للعدو كل ما يجعلك موجودا، ويؤجل فناؤك ليقع على أبنائك وأحفادك بلا أرض ولا كرامة. وحدها مقاومة المحو تمنحنا الحياة والحق في الوجود.
وعندما أتكلم عن “حصاد المقاومة”، لا أعني التغاضي عن الفقدان والدمار الهائلين، بل أعني أن الكيان الصهيوني، رغم وحشيته التي فاقت النازية والفاشية، لم ينجح في تصفية القضية، ولا في فرض الاستسلام. هذه ليست نظارات وردية، بل محاولة لحفظ المعنى كي لا يتحول دم الشهداء إلى مجرد أرقام في عداد الموت.
أما حماس، فهي - مثل غيرها من الفصائل - ليست فوق النقد ولا التقييم. لكن ما يحدث اليوم يتجاوز تنظيما بعينه، فالإبادة بدأت قبل عقود من ظهور حماس. إنها حرب إبادة ضد شعب كامل بدأت منذ أكثر من قرن، وبلغت ذروتها في السنتين الأخيرتين، لأن العدو ورعاته قرروا حسم الصراع الوجودي على أرض فلسطين. وخطة سموتريتش 2017 وصفقة القرن 2020 أدلة دامغة.
ومن واجبنا، ونحن ندافع عن حقنا في الوجود ومقاومة المحو، أن نفتح النقاش الصريح حول جدوى الاستراتيجيات التي اعتمدتها القيادة الفلسطينية في المساومة والمقاومة معا، لأن المشكلة ليست في الشعب، بل في القيادات التي قصّرت، وأخطأت، ورفعت كلفة تحرره.
القضية لن تعود حيّة إذا سلّمنا بأنها جثة. ولا معنى للمقارنة الميكانيكية مع الجزائر أو فيتنام إلا بقدر ما تعلّمنا من دروس في صعوبة التحرر وتعقيداته. لكل تجربة شروطها، لكن لكل شعب أيضا حقه في أن ينظر إلى دمائه كجزء من مسار تحرري طويل، لا كخسارة صافية بلا أفق، بل كإرث يراكم خطوات نحو الحرية.
إن ما يبدو اليوم “حصادا إسرائيليا” من خراب غزة أو استباحة الضفة الغربية ولبنان وسوريا واليمن، ليس سوى ربح آني. ففي قانون الحياة، الكائن الذي يعتاش على افتراس محيطه بلا توازن يتحول من مهيمن إلى طفيلي. والطفيليات قصيرة العمر لأنها تنهك مضيفها وتنهك ذاتها معه. إسرائيل اليوم، بما تمارسه من إبادة ووحشية وتغول، وبفعل المقاومة تدخل مرحلة العزلة والاستنزاف الشامل لعوامل بقائها، التي يحكمها ناموس الطبيعة حتى قبل أن تدخل حسابات السياسة.
وفي فلسفة التاريخ أيضا، كل إمبراطورية بنت مجدها على القوة العارية والإخضاع بلغت ذروة ما، ثم انقلب عليها الزمن، لأن استمرارها كان مرهونا بخلق اختلال دائم في التوازن. وعندما يختل التوازن مع المحيط، يبدأ قانون الانقراض بالعمل.
ولهذا، فإن إسرائيل، بكونها كيانا هجينا، لا يمكنها أن تتحدى هذه القوانين إلى الأبد. فالزمن أشبه بمحيط حيّ يرفض الكائنات غير القابلة للتكامل.
لهذا أقول: ليس أمامنا سوى أن نتمسك بخيار المقاومة، مع كل ما يتطلبه من مراجعة وتطوير وعقلنة، لأن الاستسلام لا يحفظ حياة أحد، بل يضمن الزوال. ما يمنحنا البقاء ليس الإفلات المؤقت من الموت، بل الإصرار على الحياة في وجه المحو.
قد يختلف موقعنا في هذه المعركة بين داخل الحصار وخارجه، لكن مصيرنا واحد، ومعركتنا واحدة.
حماكم الله وحمى غزة، التي تبقى، رغم الجراح، أنقى ما أنجبته فلسطين والأمة.