الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   15 أيلول 2025

| | |
إلياس خوري وامتحان غزة: إنسانية المقاومة في وجه الجلاد.. قراءة في مقال عادل الأسطة “في حضرة إلياس خوري: الذاكرة أصدق من الغياب
غانية ملحيس

الصديق العزيز عادل الأسطة
قرأت مقالك في القدس العربي بتمعن. ومثلك، افتقده ويفتقده الفلسطينيون جميعًا في زمن التخلي، وإيثار غالبية العرب الصمت في حضرة الإبادة الجماعية المستمرة في قطاع غزة ومخيمات وقرى الضفة الغربية، وعلى امتداد فلسطين ومحيطها العربي منذ 711 يومًا. ووصول الطائرات المغيرة إلى مفاوضيهم في الدوحة، بجوار قاعدة العديد الأمريكية، حيث كان ينتظرهم الوفد التفاوضي الأمريكي لمناقشة مشروع إسرائيلي معدل على المشروع الذي سبق أن وافقوا عليه. وتذكّر نتنياهو شروطًا جديدة أغفلها، وذكّره بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وأرفقها بإنذار أخير للفلسطينيين إن لم يمتثلوا، وارتأى الحسم قبل التفاوض بتفويض نتنياهو ووزير حربه بقتل الفريق الفلسطيني المفاوض، وبتوجيه سرب آخر من الطائرات إلى سيدي بوسعيد في تونس لعرقلة أسطول الحرية.
فشكرًا لك لاستحضارك العربي اللبناني إلياس خوري ومسيرته الشخصية والنضالية والفكرية.

الضحية والإبادة: تجربة خوري المبكرة

لكن أكثر ما استوقفني هو سؤالك حول ما إذا كان خوري، لو عاش ليشهد السنة الثانية من الإبادة في قطاع غزة، سيبقى متعاطفًا مع اليهود الذين عانوا المحرقة.

شخصيًا، لا أعتقد أنه كان سيغير رأيه. فقد شهد في مطلع حياته إبادة فلسطين ومحو 531 قرية، وتهجير الغالبية الساحقة من الشعب الفلسطيني من 78% من أرضه، بعد ثلاث سنوات فقط من المحرقة.

ما ميّز خوري – كما غالبية الفلسطينيين والعرب – هو استمراره في التعاطف مع ضحايا المحرقة، رغم علمه بأن كثيرًا من الناجين اليهود منها تحولوا إلى جناة مثل جلاديهم بحق الفلسطينيين الأبرياء.

تكشف هذه المسافة الأخلاقية والإنسانية عمق إنسانيته ورؤيته الفكرية، كما تظهر قدرته على التمييز بين الحدث المدان وأثره، وبين التوظيف السياسي للألم التاريخي والخوف لارتكاب جرائم مماثلة بحق آخرين.

كثيرًا ما سألت نفسي: كيف يمكن أن يتحول ضحايا المحرقة، بعد ثلاث سنوات فقط، إلى نماذج مماثلة للجناة بحق الفلسطينيين الأبرياء؟ إنه سؤال عميق ويستحق التأمل والتفكر.

ولعل ما يضاعف أهمية موقفه أنه لم يكتب عن المحرقة من موقع المتفرج، بل انشغل في نصوصه الروائية والمقالية، حتى في سنواته الأخيرة، بفلسطين وغزة تحديدًا، حيث كان يرى فيها الامتحان الأقصى لإنسانية العالم. فقد ربط بين الذاكرة اليهودية والذاكرة الفلسطينية، وأصرّ على أن الحاضر لا يمكن فهمه دون إعادة النظر في الجراح المفتوحة للضحايا على اختلاف هوياتهم. بهذا، لم يكن خوري شاهدًا على الغياب فقط، بل مساهِمًا في إبقاء الجرح الإنساني حيًا في الضمير.

المقاومة كنقيض للجلاد

الجواب يكمن في نموذج المقاومة في غزة، الذي يجسد رؤية وفكر إلياس خوري. فالثائر نقيض الطاغية، والعقل الإنساني نقيض العقل الأداتي. فالمقاومة تحمي أسرى العدو وتحافظ على حياتهم، بينما العدو لا يأبه بمصيرهم، ويواصل استهداف حراسهم وعموم الشعب الفلسطيني، ويقتل ويعذّب الأسرى الفلسطينيين.

ويتجاوز ذلك ما يروّج له البعض من أن دافع المقاومة للحفاظ على أسرى العدو هو مجرد ضغط تفاوضي، خصوصًا في ظل معرفة العدو بتنفيذ “قانون هانيبال” منذ اللحظة الأولى لطوفان الأقصى، وقتل العشرات من مواطنيه بشهادات موثقة لإسرائيليين مدنيين وعسكريين.

الدافع الأساسي يكمن في الفارق بين إنسانية الثوار ووحشية الطغاة، وبين من يدافع عن حقه في الحياة الحرة الكريمة، ومن يسعى للبقاء فوق أنقاض أصحاب البلاد الأصليين.

فالضحية، إن لم تُعالج لدى مجموعتها التاريخية التروما، قد تتحول إلى جلاد يمارس العنف ذاته ضد آخرين.

المشروع الصهيوني ونظام العنف الهيكلي

في حالة يهود إسرائيل، لم يُسمح لهم مطلقًا بمعالجة الألم التاريخي أو التعافي من الخوف الوجودي والرعب الجماعي الذي عاشوه في المحرقة.

المشروع الصهيوني، منذ بلورته، كان جزءًا من نظام الحداثة الغربي المادي العنصري المهيمن، قائمًا على توظيف الخوف والشحن النفسي للعقل اليهودي ليؤدي الدور الوظيفي للكيان الصهيوني في السيطرة على الأرض والشعب الفلسطيني، وإخضاع عموم المنطقة العربية والإسلامية.

بهذا، يجد يهود إسرائيل، ومعهم غالبية يهود العالم، أنفسهم جزءًا من هذا النظام الهيكلي، دون أن يتمكنوا من تجاوز دورة الخوف والعنف التي صنعتها السياسات الغربية الاستعمارية العنصرية تاريخيًا.

سؤالك يفتح الباب لفهم العلاقة بين التاريخ الفردي والجماعي، بين الضحية والجاني، وبين الفعل الأخلاقي والوظيفة السياسية.

في هذا السياق، يمكن مقاربة ما طرحه خوري مع ما كتبه بريمو ليفي، الناجي من المحرقة، حين قال إن “من عاش التجربة لا يمكن أن يتحول إلى جلاد”. غير أن التجربة التاريخية أثبتت العكس عند جزء كبير من اليهود الصهاينة، وهو ما نبّهت إليه حنّا أرندت في نقدها لسياسات إسرائيل بعد 1967. هذا البعد المقارن يكشف أن مأزق التحول من ضحية إلى جلاد ليس استثناءً، بل احتمال قائم إذا ما جرى احتكار الألم وتوظيفه في مشروع سلطوي أو استعماري.

الأدب والفكر كمرآة للفعل

الأدب والفكر، كما لدى إلياس خوري ومحمود درويش وآخرين، وسلوك المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، يقدمون مرآة لفهم هذه التعقيدات دون تبسيط أو محاكمة مباشرة.

إن إلياس خوري يذكرنا أن الضحية قد تتحول إلى جلاد إذا لم تواجه جرحها، لكن غزة اليوم تقدم الوجه الآخر: ضحايا يقاومون، يتحول ألمهم إلى إنسانية ممكنة، ويجعلون من دمائهم ووجعهم مرآة للفعل الأخلاقي، لا مجرد شهادة على الغياب.

هنا تلتقي الذاكرة مع الفعل، ويصبح الأدب والفكر امتدادًا للمقاومة، لا مجرد رثاء. غزة، بهذا المعنى، ليست فقط مكانًا جغرافيًا أو مأساة يومية، بل امتحان حي للضمير الإنساني، يدعونا جميعًا – فلسطينيين وعربًا وعالمًا – إلى اختيار جانب الإنسانية، إلى أن نرفض أن نصبح شركاء الجلاد، وأن نحافظ على فرصة الإنسان في أن يكون حرًا، عادلًا، وواعيًا لتاريخه ومستقبله.

ومن هنا، يصبح السؤال المطروح علينا اليوم، نحن الفلسطينيين والعرب، لا يتعلق فقط بكيفية مواجهة المشروع الصهيوني عسكريًا وسياسيًا، بل بكيفية حماية إنسانيتنا من الوقوع في الفخ ذاته: أن يتحول الألم إلى ذريعة للعنف الأعمى.

درس إلياس خوري، وامتحان غزة، يعلماننا أن الحرية لا تكون حقيقية إلا إذا ظلت مشبعة بالقيم الأخلاقية، وأن المقاومة لا تنتصر إلا بقدرتها على أن تكون نقيضًا جذريًا للجلاد، لا صورة أخرى عنه.

 

لأستاذ العزيز عادل الأسطة

قرأت مقالك ” غزة 716 :
ما هي مهمة الكاتب الفلسطيني في هذه ” المفرمة “؟ بتمعن ، ولفتني أنه في كل مرة يُطرق فيها الخزان، يُحاصر الطارق بدل أن يُوسَّع الثقب، وكأننا ارتضينا الموت صامتين.

استنتاجك حول خيارات الحسيني وكنفاني وحبيبي مهم، لكن ما أراه هو أن تجربتي الحسيني وحبيبي عشناهما بالفعل، فيما سؤال غسان بقي معلَّقًا لغياب قيادة وطنية مؤهلة تعرف كيف تدق على جدران الخزان بالشكل الصحيح. لقد ظللنا نراوح بين الهجرة والصمت، والطرق الخجول على الخزان منذ ثلاثينيات القرن الماضي وصولا إلى أوسلو وما تلاها، فكانت كل محاولة جادة تُجهض وتُحاصر.

حتى حين جرى الطرق الحقيقي على الخزان في “طوفان الأقصى”، كان الصدى مختلفًا؛ لأول مرة سُمع صوت الداخل وكُشف المجرم، فاستيقظ العالم على مظلومية شعب يُذبح منذ قرن. لكن بدل أن نوسع الثقب الذي أحدثه الطرق، انشغلنا بجلد من طرق عليه ومحاولة إسكاته لأنه “أخضر اللون”، وكأننا ارتضينا البقاء في الخزان حد الاختناق والموت البطيء بصمت.

وعليه، لم تعد مهمة الكاتب والمثقف اليوم يا عادل مقتصرة على التوثيق وفضح العدو وحماية الذاكرة وتثبيت الحق بالجلوس على “الخازوق” كما قال حبيبي، بل أصبحت أيضًا فضح الذات والتساؤل عن مدى إسهامنا نحن في ما وصلنا إليه، والدعوة إلى التوقف عن لوم الديك الذي صاح – حتى لو لم يكن لونه على هوانا – لأنه أيقظ العالم على صراخ من في الخزان.
وربما الأجدر أن نرد على سؤال من يلومك على عدم لوم “الديك الأخضر” بسؤال آخر: أين الأصفر والأحمر والأبيض؟ وهل حسموا خياراتهم فعلا، أم ارتضوا البقاء وحشر الشعب في الخزان حد الاختناق والموت بهدوء ، حتى بعد أن صحا العالم وبات ممكنا الخروج منه لو وعوا وأرادوا؟

دمت يقظا مثابرا على الطرق على الخزان

 

مشاركة: