الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   20 أيلول 2025

| | |
بين الأصالة والهيمنة: نحو إطار قيمي لقياس تقدم الحضارات بعيدا عن الاستلاب
غانية ملحيس

في زمن تختلط فيه معايير الحكم على الحضارات بين دعاوى “التقدم” الغربي وموروثات الحضارات الأصيلة، تبرز الحاجة إلى إطار نظري عادل يعيد الاعتبار للقيم والمعايير الإنسانية الحقيقية. فليست القوة المادية ولا تراكم الثروة على حساب الآخرين معيارا للتفوق، بل القدرة على إنتاج المعرفة، صون الكرامة، وتحقيق العدالة والحرية للإنسان. هذا المقال محاولة لإعادة ضبط بوصلة المقارنة، بعيدا عن أساطير الهيمنة واستلاب القيم، نحو رؤية تحررية تستند إلى الأصالة وتفتح أفقا جديدا للنهوض.

الإطار النظري الذي يحدد المرجعيات القيمية والمعايير التي تُبنى عليها المقارنة.
هذه الخطوة تمنع الانحياز، وتوضح ما نعنيه عند الحديث عن “الحرية
و” الديمقراطية” و” حقوق الإنسان”.

أولا: المرجعيات القيمية:

الحرية: القدرة على الاختيار والفعل دون قهر أو إخضاع، تشمل الحرية الفردية، الاجتماعية، والسياسية، مع مراعاة المسؤولية الأخلاقية تجاه الآخرين.
الديمقراطية: نظام مؤسسي يضمن المشاركة الفعلية للناس في اتخاذ القرار، المساءلة، والشفافية، وليس مجرد مظاهر شكلية.
حقوق الإنسان: حقوق شاملة لكل إنسان، بغض النظر عن العرق أو الدين أو الجنس، تشمل الحق في الحياة، الكرامة، التعليم، الصحة، والتعبير.

ثانيا: معايير وأدوات القياس

لكي تكون المقارنة علمية وموضوعية، يتوجب استخدام معايير محددة:
شمولية الحقوق: مدى تطبيق الحقوق على الجميع، وليس على فئة محددة.
العدالة الاجتماعية: توزيع الموارد الاقتصادية والسياسية بشكل عادل بين السكان.
التراكم المعرفي: قدرة المجتمع على إنتاج ونقل المعرفة والعلم عبر الأجيال لخدمة الإنسانية.
الاستدامة والقيم الأخلاقية: احترام الإنسان للطبيعة وللآخرين ضمن منظومة قيمية متماسكة.
الاستقلالية والسيادة: قدرة المجتمع على اتخاذ قراراته دون تبعية خارجية أو هيمنة مستمرة.

ثالثا: مبدأ المقارنة الصحيح

لا يمكن المقارنة من الحاضر فقط، لأن الوضع الحالي هو نتيجة تراكمات تاريخية، سيطرة استعمارية، ونهب الموارد.
المقارنة يجب أن تشمل الجذور التاريخية والقيم المؤسسة لكل حضارة: ماذا أنتجت من نظم قانونية، علمية، فلسفية، وفنية؟ كيف نظمت المجتمعات؟ ما هي رسالتها الأخلاقية؟
يجب التمييز بين الإنتاج الحضاري الذاتي وبين ما جاء نتيجة استلاب حضاري من حضارات أخرى.

رابعا: تطبيق الإطار لقياس منجز الحضارات الأصيلة والحداثة الغربية:

1. الحضارات الأصيلة: تراكم المعرفة والقيم

الحضارات القديمة، بما فيها الحضارة الاغريقية الصينية، الهندية، المصرية، العربية، الإسلامية، الخ …أنتجت منجزات هائلة على صعيد القانون والفلسفة والعلوم والفنون:
القوانين: شريعة حمورابي تقدم نموذجا مبكرا للعدالة والمساءلة، بينما الحضارة الإسلامية أنتجت نظما قانونية متقدمة تستند إلى مبادئ أخلاقية واجتماعية.
الفنون والمعمار: الأهرامات، العمارة الصينية، العمارة الرومانية، المدن الإسلامية، تعكس قدرات تنظيمية وفنية هائلة، تعكس رؤية حضارية شاملة.
القيم الأخلاقية والروحية: العدالة، التضامن، احترام الإنسان، وتنظيم المجتمع وفق منظومة متماسكة من القيم الروحية والأخلاقية.
الفلسفة والعلوم: الرياضيات والفلك والطب والمنطق في الحضارات العربية والهندية والصينية أسست أسس التراكم المعرفي العالمي.
هذه الحضارات كانت تراكما معرفيا متواصلا لخدمة الإنسان والمجتمع، ولم تبن على إبادة شعوب أو نهب مستمر للقارات الأخرى.

2. حضارة الحداثة الغربية، اللاحضارة

مع بزوغ الحداثة الأوروبية في القرن الخامس عشر الميلادي، حدث انقلاب جذري في مسار الحضارة الإنسانية، وأعادت هندسة العالم وفق مركزية العرق الأبيض:
الرأسمالية والتوسع الاستعماري: أعطت الأقلية الأوروبية / العرق الأبيض حصرية الحق في تراكم الثروة عبر السيطرة على شعوب العالم ونهب مواردها.
الإبادة والاستعباد: ملايين البشر قتلوا أو أبعدوا، واستعبدوا لتغذية الاقتصاد الصناعي الأوروبي، بينما تم محو حضارات بكاملها.
استلاب المعرفة: العلوم والفلسفة والفنون التي أنتجتها حضارات أخرى تم السطو عليها ونسبها للغرب وجيرت لخدمته فقط.
الانقلاب على القيم الروحية والأخلاقية التي تقيد جموح الغرائز وتخضعها للمساءلة والمحاسبة تم استبدالها بقيم مادية وفقا لمعايير الربح والخسارة بلا أي ضوابط قيمية أو اخلاقية. وبالاحتكام إلى موازين القوى المادية / العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية / كناظم وحيد للعلاقات الخارجية/بين الأمم والشعوب/ والداخلية، بين الأعراق والإثنيات والأجناس والأديان والطوائف والطبقات الاجتماعية.

3. توزيع الغنائم وموازين القوى

أوروبا وأقلياتها البيضاء 15% من سكان الكرة الأرضية أنشأت شبكة من السلطة والوفرة قائمة على نهب العالم.
شعارات “الحرية والديمقراطية” التي بقيت حكرا على الأقوياء والمستفيدين من الغنائم المتأتية من إبادة الشعوب ونهب مواردها واستعبادها على مدى ستة قرون.
الحرية والديمقراطية الغربية وحقوق الإنسان لم تكن سوى أدوات لتوزيع هذه الغنائم داخليا بين المستغلين، مع استبعاد الأغلبية المسحوقة.

ألا يلفت النظر كيف تتعايش قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان مع دعم وتسويغ حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة؟ ومع استمرار النهب الاستعماري لإفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية؟
بل وكيف يمكن أن يقبل نظام الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في بلد الحريات كفرنسا بمتحف بالقرب من برج إيفيل/ مقبرة/ يحوي 500 من جماجم قادة الثوار المسلمين، ويتم التعامل معه كمعلم سياحي، وتنظم رحلات مدرسية للطلبة للزهو بالتاريخ الفرنسي؟
أي تقدم اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي يراد لنا الاقتداء به لم يكن نابعا من تفوق حضاري أصيل، بل من هيمنة استعمارية تاريخية على العالم على مدى قرون، وإعادة توزيع ثرواته وموارده المنهوبة لصالح الأقلية البيضاء المهيمنة؟

خامسا: نقد المقارنات وفقا لمرجعية “الحضارة الغربية

مقارنة الحضارة الإسلامية أو أي حضارة أصيلة بالحاضر الغربي هي مضللة، لأنها:
تقيس الحاضر الذي يشكل نموذجا منفصلا عن قيمه ورسالة أصله.
تتجاهل الجذور التاريخية، تراكم المعرفة، وظروف الاستعمار التي أعاقت الشعوب الأخرى
النقد الصحيح يجب أن يكون ضمن سياق الحضارة نفسها: إنجازاتها، قيمها، ونظامها الأخلاقي والاجتماعي، مع التمييز بين ما أنتجته بنفسها وما استلبه الآخرون.
الحداثة الغربية ليست مرجعية ولا معيارا للتفوق الحضاري، بل نموذج لاستلاب واحتكار للمعرفة والقيم الإنسانية لصالح أقلية عنصرية مسيطرة.
الحضارة الحقيقية تُقاس بقدرتها على شمول الإنسان بالحقوق والمعرفة والعدالة، لا بسطوة القوة أو تراكم الثروة على حساب الآخرين.
أي حديث عن “تقدم الغرب” بدون الإشارة إلى الإبادة، النهب، وإعادة توزيع الغنائم هو تاريخ مزيف وأداة لتبرير الهيمنة.

سادسا: إصلاح العطب الذاتي النبيوى ضرورة حتمية للنهوض

ما تقدم لا يحجب الضرورة الملحة للمراجعة النقديةالجادة لأعطابنا الذاتية كشرط لا غنى عنه للنهوض، ومعالجة التشوهات البنيوية التي ورثناها عن قرون طويلة من الاستعمار، بما خلفه من اختراق عميق في مجتمعاتنا، واستقطاب للأنظمة والنخب، وانفصالها المتزايد عن الشعوب. فالهشاشة الداخلية الراهنة ليست قدرا مطلقا، لكنها نتاج تاريخ طويل من الاستعمار والتبعية والاستلاب والانسلاخ عن الجذور الحضارية.

ولن يكون النهوض ـ كما قد يتوهم البعض ـ باقتفاء أثر الغرب أو تكرار نموذجه، لأن هذا النموذج ذاته يقوم على الاستعمار، الاستعباد، الإقصاء، الهيمنة، وتوزيع الغنائم.
النهوض الحقيقي لا يمكن أن يكون إلا برؤية نهضوية إنسانية تحررية تستند إلى القيم الحضارية الأصيلة وتساوي حقوق جميع البشر في الحياة والحرية والعدالة والكرامة، وتستجيب في الوقت نفسه لاحتياجات الناس الملموسة ومصالحهم الحقيقية. رؤية تعيد وصل الفكر بالفعل، والقيادة بالشعوب، والماضي بالمستقبل، في مشروع تحرري جامع يفتح أفقا جديدا للتاريخ الإنساني
فالتاريخ لا يبنى بسطوة القوة، بل برؤية تحررية تعيد للإنسان إنسانيته.
إن معيار الحضارة الحقّة هو قدرتها على إنتاج عدالة إنسانية شاملة

 

لأستاذ العزيز عادل الأسطة

قرأت مقالك ” غزة 716 :
ما هي مهمة الكاتب الفلسطيني في هذه ” المفرمة “؟ بتمعن ، ولفتني أنه في كل مرة يُطرق فيها الخزان، يُحاصر الطارق بدل أن يُوسَّع الثقب، وكأننا ارتضينا الموت صامتين.

استنتاجك حول خيارات الحسيني وكنفاني وحبيبي مهم، لكن ما أراه هو أن تجربتي الحسيني وحبيبي عشناهما بالفعل، فيما سؤال غسان بقي معلَّقًا لغياب قيادة وطنية مؤهلة تعرف كيف تدق على جدران الخزان بالشكل الصحيح. لقد ظللنا نراوح بين الهجرة والصمت، والطرق الخجول على الخزان منذ ثلاثينيات القرن الماضي وصولا إلى أوسلو وما تلاها، فكانت كل محاولة جادة تُجهض وتُحاصر.

حتى حين جرى الطرق الحقيقي على الخزان في “طوفان الأقصى”، كان الصدى مختلفًا؛ لأول مرة سُمع صوت الداخل وكُشف المجرم، فاستيقظ العالم على مظلومية شعب يُذبح منذ قرن. لكن بدل أن نوسع الثقب الذي أحدثه الطرق، انشغلنا بجلد من طرق عليه ومحاولة إسكاته لأنه “أخضر اللون”، وكأننا ارتضينا البقاء في الخزان حد الاختناق والموت البطيء بصمت.

وعليه، لم تعد مهمة الكاتب والمثقف اليوم يا عادل مقتصرة على التوثيق وفضح العدو وحماية الذاكرة وتثبيت الحق بالجلوس على “الخازوق” كما قال حبيبي، بل أصبحت أيضًا فضح الذات والتساؤل عن مدى إسهامنا نحن في ما وصلنا إليه، والدعوة إلى التوقف عن لوم الديك الذي صاح – حتى لو لم يكن لونه على هوانا – لأنه أيقظ العالم على صراخ من في الخزان.
وربما الأجدر أن نرد على سؤال من يلومك على عدم لوم “الديك الأخضر” بسؤال آخر: أين الأصفر والأحمر والأبيض؟ وهل حسموا خياراتهم فعلا، أم ارتضوا البقاء وحشر الشعب في الخزان حد الاختناق والموت بهدوء ، حتى بعد أن صحا العالم وبات ممكنا الخروج منه لو وعوا وأرادوا؟

دمت يقظا مثابرا على الطرق على الخزان

 

مشاركة: