الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   08 أيلول 2025

| | |
من الشهادة إلى الفعل: الكتابة الفلسطينية في زمن الإبادة
غانية ملحيس

لم يكن السؤال حول جدوى الكتابة جديدا، لكن تكراره في زمن الإبادة جعل منه قضية جماعية لا يمكن تجاوزها. وقد فجر نقاشا حيّا امتد من قلب النار داخل غزة إلى خارجها. متجاوزا الساحة الفلسطينية ليشمل مثقفين من مصر والسعودية وتونس والمغرب شاركوا المقالات والنقاشات على صفحاتهم الشخصية. وتحوّل السؤال إلى منبر جماعي تتلاقى عنده الشهادات والمواقف، في محاولة لفهم معنى الكلمة حين يصبح الوجود ذاته مهددا بالمحو.

الكتابة في قلب النار

من بيت النار حيث تتضافر مفاعيل الإبادة والدمار والجوع معا، في تعقب الفلسطينيين المستهدفين بالمحو منذ أكثر من قرن. وبلغت ذروتها في الجولة الأخيرة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، لاستكمال اقتلاعهم من الجغرافيا والتاريخ والذاكرة.
ومن المسافة الصفرية للفقد والألم. يواصل الشعراء والكتاب والمدونين الغزيين على مدى 702 يوم، الكتابة من تحت الركام. ويشهدون على ما بلغته الحداثة الغربية المادية العنصرية من وحشية فاقت كل ما خبرته البشرية منذ بدء الخلق. ويوثقون بالشعر والنثر تجليات العقل الأداتي للعرق الأبيض في القرن الواحد والعشرين. وينقلون شهادات حول ما يجري وتشاهده البشريه على امتداد الكرة الأرضية بالبث الحي لحظة حدوثه ولا تحرك ساكنا. ويسجلوها بمداد الدم على الورق وعبر شاشات الهاتف. قاطعين الطريق على كل مدع بأنه لم ير ولم يسمع.

ومنذ اليوم الأول للمقتلة، لم تكن كتابة الغزيين مجرد شهادات يوثقها الشعراء والكتاب: كعاهد حلس، وأكرم الصوراني، وشجاع الصفدي، ومحمد موسى، ووليد عوض، وآلاء القطراوي، وتوفيق العيسى، وحكمت عليان المصري، ويسري الغول، ومحمد الذهبي، ومحمود زكي العمودي، وأسامة أبو الجود، ومحمود عبد المجيد عساف، وجواد العقاد، وبسام سعيد وعشرات آخرين، ما يزالون يواصلون الكتابة.
بل كتبوا وصاياهم وكأنهم ينتظرون الموت كل لحظة، لمن قد ينجو، وللمراقبين الصامتين من الأهل وذوي القربى: فلسطينيين وعربا ومسلمين وما تبقى من إنسان على كوكب الأرض. محذرينهم مما ينتظرهم، إن مكنوا ورثة الطغاة من استنساخ نماذج الإبادة لأسلافهم في القرن الخامس عشر ضد شعوب الأمريكتين وأستراليا ونيوزيلندا. ومذكرين أنهم – إن واصلوا الإفلات من العقاب كما اعتادوا على مدى القرون الخمسة الماضية – فلن يقفوا عند حدود غزة والضفة الغربية وسائر فلسطين وجوارها العربي. ولن يسلم أحدا إن اكتفوا بمراقبة أطفال ونساء وشيوخ وشباب غزة وهم يذبحون من الوريد إلى الوريد. ومساكنها وأبراجها ومستشفياتها ومدارسها وكنائسها وجوامعها وتراثها يدمر، وطرقاتها تجرف وأشجارها تقتلع وزرعها يستأصل. لتمهيد المكان للمقاول الأبيض، الذي لا يرى في الوجود هدفا سوى إبرام الصفقات المربحة التي تمليها القوة القاهرة.

أصداء الخارج وتكامل الأصوات

وعلى الضفة الأخرى، تجاوب معهم بعض الكتّاب والأدباء والشعراء من خارج القطاع أبرزهم: عادل الأسطة وسميح محسن، ورفعت العرير، وبتول أبو عقيل، وعادل سمارة، ومصطفى إبراهيم، وخالد عطية، وعواد أبو زينة، وصبري حجير، وأكرم عطا الله، وراسم عبيدات، ورمزي بارود، وهيّا أبو ناصر، ويحيى بركات، ومصعب أبو توهة، وتميم البرغوثي، وعبد المجيد سويلم، وغسان جابر، نزهة الرملاوي وكاتبة المقال، وآخرين. واكبوا كتاب غزة، وشكلوا صدى لأصواتهم، وحملوا شهاداتهم. وأرقهم كثيرا الفارق بين الكتابة من قلب النار والكتابة عنه، وانضم إليهم عشرات المعقبين على المقالات.
هذا التداخل بين الداخل والخارج أغنى النقاش، وفتح الأفق لتفعيل دورالكتابة في إعادة بناء الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي والعالمي وتنقيته مما علق به من شوائب.

بين الشهادة والفعل

أبرزت النقاشات ملاحظات عديدة ونقلتها من السؤال حول جدوى الكتابة في زمن الإبادة إلى الإقرار بأهميتها الحيوية كفعل مقاومة. بل وضرورتها الحتمية، كما قال الصديق سميح محسن في مقاله المعنون” من جدوى الكتابة الى ضرورتها الحتمية “.

وأراها شخصيا تتجاوز كل ذلك، لأنها تعيدنا إلى جوهر العلاقة بين الكتابة والفعل. بين التسجيل والتوثيق والخيال من جهة، وبين التخطيط والممارسة من جهة أخرى. وتفتح، بذلك، مساحات للأسئلة الكبرى.
فالكلمة، ليست فقط حارسا للذاكرة، ولا مجرد بوح فردي، بل فعل نهوض، وضوء يضيء الدرب في زمن الظلام.

والكتابة التي تكتفي بالانفعال تبقى مرآة للألم. أما الكتابة التي تنبثق منها رؤية، وتستولد من الحكاية سؤالا، ومن السؤال مساءلة حول أوجه العطب الذاتي، ومن المساءلة مشروعا للتغيير، تتحول إلى طاقة فعل تغييري. عندها تصبح الكتابة والفكر والثقافة والأدب والشعر والفن جزءا من معمار الوعي الجمعي، وخطوة في طريق التحرير لا مجرد شهادة على الخراب. لكن هذا الوعي لا يكتمل إلا إذا تحوّل إلى بنى ومؤسسات تحفظه وتفعّله.

أوسلو وانكسار السردية الجماعية

وقد ذكّر النقاش بأن اتفاق أوسلو شوه الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي والعالمي. وشكل لحظة قطيعة مع السردية الأصلية الجماعية الفلسطينية. تماما كما فتّت الجغرافيا والسياسة.
فقد انقسم الكتاب الفلسطينيون داخل الوطن وخارجه وفقا لانتماءاتهم السياسية والتنظيمية. وتقوقع بعضهم على الذات طلبا للسلامة. وفقدت الثقافة والأدب الفلسطيني المقاوم وحدتها التي حفظت الهوية الوطنية الفلسطينية، وحافظت على التماسك المجتمعي على مدى عقود بعد النكبة. وأشعلت جذوة المقاومة وألهمت الثوار.
وأسهم الانقسام الفلسطيني: الجغرافي والسياسي والثقافي والمؤسسي، وانخراط النخب المتغربة بتصفية الحسابات السياسية والشخصية في تشويه الوعي، وتسهيل الاستفراد الأمريكي الغربي الصهيوني بقطاع غزة. وأوغلوا في ضلالهم حد التواطؤ، حتى عندما كشفت حرب الإبادة، التي بلغت ذروتها في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، أن الهدف الغربي الصهيوني لم يعد حسم الصراع بالتدريج كما جرى على مدى أكثر من قرن. بل بات إنهاؤه هدفا مركزيا لنظام الحداثة المادية الغربي العنصري المهيمن، منذ تولى دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية عام 2016، واتخاذ القرار بإخراج فلسطين جغرافيا وديموغرافيا من معادلة المنطقة، لاستكمال استيلاد الشرق أوسط الجديد، وفقا للخطة الأمريكية الغربية الصهيونية، بدعم إقليمي وتواطؤ النظام العربي الرسمي.

خطة الحسم: من سموتريتش إلى صفقة القرن

وبالعودة الى التطورات منذ العام 2014، الذي أنهت فيه إسرائيل بدعم أمريكي وغربي مسار التفاوض الفلسطيني – الإسرائيلي، برفض تنفيذ الاتفاق التعاقدي مع رئيس السلطة الفلسطينية المسالم، الذي تولى قيادة السلطة إثر الانتخابات الرئاسية عام 2005، بعد إزاحة الرئيس المشاكس عرفات من المشهد السياسي عندما أذن الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن لشارون بمد العون لعزرائيل لتسهيل استبدال النظام السياسي الفلسطيني المقاوم بآخرمهادن. والتهيئة لانقسام النظام السياسي عبر الانسحاب الأحادي من قطاع غزة واستدراج حماس لخوض الانتخابات التشريعية عام 2006، التي كانت كلّ الدلائل تشير الى احتمال فوزها بسبب انغلاق أفق التسوية السياسية. والانقلاب على نتائج الانتخابات إن استعصى تدجين حماس وإلحاقها بمسار أوسلو الذي لم يبق منه الا التنسيق الأمني لمقايضة الاحتياجات المعيشية بالحقوق الوطنية. فتعزز الانقسام الجغرافي بانقسام سياسي وإداري، وحظي التنافس بين قطبي النظام برعاية سياسية ومالية دولية، توزعت فيها الأدوار عربيا ودوليا لتعميقه ومأسسته. وتجذربفرض حصار شامل بري وبحري وجوي على قطاع غزة، وخمسة حروب متتالية لترويضه، حيدت فيها الضفة الغربية، بل وشاركت السلطة الفلسطينية في قمع تمرد الفتية المقاومين بالسكاكين، ونشط التنسيق الأمني مع إسرائيل بالتوازي مع النمو الاستيطاني اليهودي في الضفة الغربية جغرافيا وديموغرافيا.
وترافق ذلك مع تنامي الحضور السياسي للصهيونية الدينية بشقيها المسيحي الذي أوصل دونالد ترامب إلى الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2016. واليهودي في إسرائيل وبروز بتسلئيل سموتريتش كزعيم، وتقديمه “خطة الحسم” عام 2017، بالإنكار الكامل للحقوق الوطنية الفلسطينية، وعدم الاعتراف بوجود شعب فلسطيني، والنكر لحقه في تقرير المصير. وإعلان رؤيته أن كل أرض فلسطين الانتدابية من النهر إلى البحر هي ملك حصري للشعب اليهودي بموجب “الكتاب المقدس”، وجزء من أرض إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل. وتخييره الفلسطينيين بين ثلاث مسارات:
الخضوع: القبول بالعيش، كافراد فقط، تحت السيادة اليهودية من دون حقوق قومية أو سياسية
الهجرة: مغادرة “أرض إسرائيل” والعيش في أي مكان آخر في العالم.
المقاومة: من يختار المقاومة، حتى السلمية، سيتم التعامل معه كعدو ويواجه “اليد الحديدية”، بما يشمل القتل أو التهجير أو كلاهما.

لم يكن دونالد ترامب نبتا بريا في الولايات المتحدة الأمريكية، بل جاءت به إلى سدة الرئاسة انتخابات ديموقراطية عكست البنية المجتمعية التحتية الأمريكية. كما لم يكن سموتريتش وبن غفير، نبتة شيطانيّة في المجمع الاستيطاني الصهيوني، أو شخصيات متطرفة ومهووسة دينيا كما يحاول الإعلام الدولي والعربي والفلسطيني تصويرهم. بل كانوا انعكاسا دقيقا لتطورالفاشية الصهيونىة، والذي كان قد حذر منها عديد من النخب الفكرية والثقافية الإسرائيلية على مدى سنوات. بل وشاركهم بعض المسؤولين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين الذين استشعروا سطوة اليمين الاستيطاني القومي والديني الصهيوني، وخطره الذي لن يقتصر على فلسطينيي الضفة والقدس والقطاع، بل سيطال يهود إسرائيل العلمانيين الاشكناز. وتحققت مخاوفهم عندما تنامت سيطرة اليمين القومي والديني عبر خمس انتخابات متتالية خلال أربع سنوات، تدرج فيها في مواقع القرار وانتهت باستئثاره بالحكم في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 2022.

فحسم الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بالقوة سلما او حربا قرار مشترك دخل حيز التنفيذ العملي بفعل التزامن بين سيطرة الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية، والصهيونية اليهودية في المجمع الاستيطاني اليهودي في فلسطين. وقد بادر إلى تنفيذه ترامب بصفقة القرن في مطلع عام 2020، بالاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، والموافقة على ضم إسرائيل للمستوطنات في الضفة الغربية وغور الأردن، وإسقاط حق العودة للاجئين الفلسطينيين وتوطينهم حيث هم. وبمطالبة من يعيش من الفلسطينيين داخل فلسطين بالاعتراف بالدولة اليهودية، وضم الدول العربية تباعا إلى الاتفاقات الإبراهيمية، باعتباره ذلك جزءا من الحل الإقليمي الأوسع.
وتبعه قادة الكيان الصهيونى بعد سيطرة الائتلاف القومي الديني على الحكم في إسرائيل بالانقلاب القضائي، الذي عمق التصدع داخل المجتمع الصهيوني. ليس اختلافا على مبدأ محو الشعب الفلسطيني، الذي يحظى بتوافق يهود اسرائيل حد الإجماع. وإنما لخلاف داخل الصهيونية اليهودية العلمانية والدينية على هوية إسرائيل وديموقراطيتها.

فخطة حسم الصراع كانت قائمة قبل الطوفان بسنوات، من خلال فرض أمر واقع بالقوة. فالطوفان لم يوفر الذريعة كما يروج المتواطئون من بني جلدتنا، ولم يخلق العنف. فقد سبقه:
·
إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن في 9/9/2023 عن مشروع إنشاء ممر اقتصادي ضخم يربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا خلال قمة مجموعة العشرين (G20) التي انعقدت في نيودلهي، وقد تقرر أن يشمل الممر الهند ومجموعة من الدول العربية مثل السعودية والإمارات والأردن، بالإضافة إلى إسرائيل والاتحاد الأوروبي، من أجل تعزيز التجارة ونقل الطاقة وتحسين الربط الرقمي. لا مكان فيه لفلسطين وشعبها في أي ترتيبات مستقبلية للمنطقة. وقطع الطريق على مشروع الحزام والطريق الذي تقوده الصين منذ 2013، لربط آسيا بأفريقيا وأوروبا عبر شبكات برية وبحرية.

· وخطاب نتنياهو في 22/9/2023 في الجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي افتتحه بالتذكير بحديثه السابق عن “لعنة إيران النووية”، ثم تحول إلى “نعمة الشرق الأوسط الجديد” التي يجسدها تطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية والدول العربية الأخرى، وانضمامها للاتفاقات الإبراهيمية، والذي سيكون نقطة تحول شاملة، واصفا إياه بأنه “يخلق خيرا حقيقيا للشرق الأوسط”. مشدّدا على أنه “لا ينبغي للفلسطينيين أن يكون لهم حق في تعطيلها”. رافعا بيده خريطة الشرق الأوسط الجديد التي تغيب عنها الضفة الغربية وقطاع غزة.

الذاكرة إن لم تتحول إلى مشروع

هذه الإطالة التي كانت ضرورية للتذكير فلسطينيا بوجوب إعادة وصل ما قطعته أوسلو: بابتكار لغة جديدة تستعيد البعد الجماعي دون أن تلغي خصوصية المكونات الفلسطينية داخل الوطن وخارجه، ودور كل مكون في قيادة النضال الوطني في المراحل المختلفة وفقا للتطورات الميدانية. ودون أن تغفل أن أحد أسباب نكباتنا المتواصلة على امتداد قرن كانت سعي القيادة الفلسطينية المركزية إلى تصدرالمشهد دون أن تمتلك شروط ومستلزمات قيادة المشروع الوطني التحرري. وأن قفزها إلى الصدارة، أجهض فرص التقدم في مسيرة النضال الفلسطيني- الذي قدمت فيه الأجيال الفلسطينية المتتابعة تضحيات جسيمة-، وكان ممكنا تحقيق منجزات سياسية، لولا الجهل المعرفي لأصحاب القرار بطبيعة الصراع الوجودي مع استعمار إحلالي وظيفي، والذاتية المفرطة للقيادة المركزية، وسعيها لإقصاء كل من تعتقده منافسا قد يهدد تفردها بالقيادة. وإغفال حقيقة أن المشروع الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري الإحلالي، لا يستهدف محو كامل الوجود الفلسطيني أرضا وشعبا فحسب، وإنما يراه خطوة مركزية في استكمال تنفيذ مشروعه العام لإخضاع عموم المنطقة العربية – الإسلامية الممتدة، واستئصال هويتها الحضارية الجامعة، واستبدالها بحضارته المادية الغربية، كما جرى في شمال الكرة الأرضية ومعظم جنوبها، وعولمتها.

فالذاكرة إن لم تصغ في مشروع مقاوم، تتحول إلى متحف صامت، بينما المطلوب أن تكون بوصلة للتخطيط.

وطوفان الأقصى، فقط، كشف حقيقة عدم جدوى محاولات الحسم بالقوة السلمية، وجعل احتمال وقوع صدام مفتوحا وواسعا.

المثقف العضوي وأسئلة القيادة

كما طُرح في النقاش سؤال محوري: من يقود المرحلة في لحظة الإبادة؟ السياسي والعسكري، أم المفكر والمثقف والكاتب والشاعر والفنان؟

لقد بدا واضحا من تجربتنا الفلسطينية المريرة على امتداد أكثر من قرن. أن استئثار أي طرف بالقيادة يقود إلى اختلال البوصلة:

· فالسياسي حين ينفرد يقع في فخ الواقعية المفرطة والتسويات المجتزأة.
·
والمفكر والمثقف حين ينعزل يتحول إلى صوت في الفراغ.

المطلوب إذن ليس منافسة، بل تكامل يربط بين القرار والفكر، بين الوعي والمعرفة، بين الفعل والرؤية. وبين الرؤية والممارسة. وأخطر اللحظات هي حين تنحرف البوصلة السياسية. عندها تتأكد مسؤولية المفكر والمثقف في دق جرس الإنذار، ليس بديلا عن السياسي، بل مكملا مرشدا للوعي. ويقتضي ذلك بناء قنوات اتصال واضحة بين السياسي والمفكر والمثقف والكاتب والفنان، وصياغة ميثاق عمل مرن يمكن تطويره بالتجربة.

من القول إلى البرنامج: مسارات عملية لتفعيل دور الكتابة

ولكيلا يبقى النقاش حول الكتابة في حيز التنظير، بات ضروريا تطويره وتوجيهه لمسارات يمكن تجربتها. فالوعي لا يكتمل إلا إذا تحوّل إلى بنى ومؤسسات تحفظه وتفعّله، وإلا يبقى صوتا حادا لكنه يتلاشى في الفراغ. وفيما يلي بعض المقترحات المطروحة للمناقشة بين الكتاب على أوسع نطاق:

1) منصة التوثيق المفتوحة: يمكن إنشاء فضاء إليكتروني مفتوح يشبه 'دفترا جماعيا’ تتلاقى فيه شهادات الناس وكتاباتهم وأصواتهم، بحيث لا تضيع التفاصيل الصغيرة وسط الخراب، بل تصان وتتاح لمن يريد البناء عليها.

2) مختبر الكتابة والتحويل: تخيّل أن اليوميات، المكتوبة تحت القصف، تجد من يساعدها على التحول إلى قصص أو مقالات أو أوراق سياسات، مختبر حي يرافق الكلمة منذ لحظة بوحها الأولى حتى تصبح نصا قادرا على الوصول للآخرين.

3) وحدة الترجمة والتداول العالمي: ما يُكتب بالعربية يحتاج أن يعبُر إلى لغات أخرى، ليصل إلى الضمير الإنساني ويتجاوز الحدود.

4) مرصد الخطاب والسياسات: وجود عين ساهرة تتابع ما يُقال عن فلسطين في الإعلام والسياسة يمكن أن يربط بين البحث الأكاديمي والفعل الميداني.

5) دليل أسلوبي وميثاق أخلاقي: الاتفاق حول تسمية الأشياء بأسمائها، وحماية الشهود، وتجنب التوازن الزائف هو البوصلة الأخلاقية والنقدية للكتابة.

6) بوابة بيانات مفتوحة للباحثين: فالشهادات والبيانات الدقيقة حول القصف والتهجير والهدم توفر أدوات لبناء دراسات ودعاوى حقوقية قائمة على الوقائع.

7) قياس الأثر والحوكمة: مراجعات دورية بسيطة تساعد على تقييم ما جمع من شهادات وما ترجم وما نشر، كبوصلة لتصحيح المسار واستمرار الفعل.
التحرير.

بهذه الأدوات، تصبح الكتابة عتلة تنقل الوعي من الاستدعاء الأخلاقي إلى التغيير المؤسسي الملموس

من الذاكرة إلى المستقبل

إن اللحظة الفلسطينية الراهنة، بما تحمله من تهديد وجودي، لا تسمح بالبقاء أسرى الوصف أو التحسر. التحدي هو أن ننتقل من صيانة الذاكرة إلى إنتاج معرفة منظمة، من خلال منصات نشر جماعية، مختبرات كتابة ترافق اليوميات منذ تدوينها، وحدات ترجمة تأخذ الرواية إلى فضاءات جديدة، ومرصد يحوّل الخلاصات إلى توصيات يمكن تبنّيها، مع مراجعات دورية تقيس أثر كل خطوة عمليا.
عند هذا الحدّ تتجسّد جدوى الكتابة ليس بوصفها شاهدا فحسب، بل بوصفها محركا لخطة عامة تقاس بمخرجاتها. وتتحوّل الكتابة من رد فعل على الخراب إلى فعل تأسيسي لمستقبل جماعي، يضع الكلمة في صميم معركة التحرير. وتخطيطا واعيا لمستقبل يستحق التضحية.

 

حين يفرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تابعه من سلاسل النفوذ، ويعلن رئيس وزراء الكيان الصهيوني، بالتزامن مع خطاب ممثله في مجلس الامن الدولي – بوقاحة مدهشة، أنهم «أسياد الأرض» وأن يدهم «ستطال كل من لا يمتثل لذلك في أي مكان من العالم»، فإننا لا نواجه تصريحا عابرا في سجالات السياسة، بل خطابا يكشف جوهر المشروع الاستعماري الصهيوني الإحلالي العنصري برمته. هذا الخطاب يعيد إنتاج لغة قرون مضت، عندما أعلن العرق الأبيض أنه السيد وما عداه ليسوا سوى بشر أدني مرتبة وعليهم الامتثال والطاعة. واشتُقّ الحقّ من ميزان السيف لا من ميزان العدالة والحقّ الإنساني.

خطاب معاليه أدوميم: إعلان سيادة أم استئصال حقّ

خطاب نتنياهو في مستوطنة معاليه أدوميم في سياق توقيع خطة E1 يوم الخميس 11/9/2025 “لن تكون هناك دولة فلسطينية” وأن “هذا المكان لنا”، وخطاب دانون أنهم سيواصلون العمل ولا حصانة لحماس في أي مكان من العالم، وخطاب ممثلة الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي، الذي يوفر حصانة لسلوك إسرائيل، ليس زلة لسان، بل إعلان أيديولوجي متكامل: رؤية للعالم تنفي الآخر، وتختزل الإنسانية في معادلة السيد الأبيض والأغيار العبيد.

عندما تُنكَسُ المرجعيات: من «لن تكون دولة فلسطينية» إلى تهديد الإنسانية

وما يجعل الأمر أشد خطورة أنّه يأتي في زمن يجري فيه الانقلاب على «النظام الدولي» و«القانون» و«حقوق الإنسان»، الذي بُني بعد الحرب العالمية الثانية على أنقاض الفاشية والنازية والاستعمار الكلاسيكي.
لنجد اليوم أنفسنا أمام خطاب يبعث من جديد ذات المنطق الاستعماري المادي العنصري للعرق الأبيض في القرن السادس عشر: احتكار الأرض، وتقديس القوة، وإبادة كل من يرفض الامتثال.

إنّه ليس تهديدا لفلسطين وحدها، ولا إنذارا لشعب يباد منذ أكثر من قرن وتتواصل ملاحقته في قطاع غزة والضفة الغربية وسائر فلسطين الانتدابية وجوارها العربي منذ 707 يوما. بل هو تهديد للعالم بأسره، بدءا بشعوب المنطقة: عربا فرسا وتركا وأكراد، وصولا إلى باكستان وسائر دول الجنوب.
إذا صمتت الشعوب اليوم عن إعلان «الأسياد»، فلن يكون غدا مكانٌ في العالم لغير من يملك السيف والمال والنفوذ.
هنا يكمن جوهر الاختبار الأخلاقي والسياسي لعصرنا: هل يسمح لخطاب الاستعمار الغربي العنصري أن يطل برأسه من جديد، ويشرعن نفسه بوصفه «منطقًا دوليًا» مقبولًا؟

البعد الاستعماري – التاريخي

عبارة «نحن أسياد الأرض» ليست جديدة، بل امتداد مباشر للمنطق الاستعماري الذي حكم علاقة الغرب بالشعوب المستعمَرة، وما يزال، على مدى ستة قرون. هذا المنطق لم يرَ في الأرض ملكية مشتركة للإنسانية، بل غنيمة تحتكر بالقوة، وتُعاد صياغة خرائطها وفق إرادة الأقوى.

المشروع الصهيوني نفسه، كما المشاريع الأمريكية والكندية والأسترالية والنيوزيلاندية، تأسّس على هذا التصور: «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» لم يكن سوى صياغة مزيفة تخفي وراءها جوهر الاستيطان الإحلالي: إبادة واجتثاث السكان الأصليين جغرافيا وديموغرافيا وحضاريا، وإحلال غرباء مكانهم باسم «الوعد» أو «الحق التاريخي».

إنّ إعلان «السيادة المطلقة» اليوم يعيد تذكيرنا بأن الاستعمار لم ينته، بل أعاد إنتاج نفسه في صورة جديدة أكثر فجاجة وعقلا أداتيا لا رادع له، ولا يرى في الأغيار سوى بشر زائدين عن الحاجة يتوجب التخلص من غالبيتهم وإخضاع من يتبقى لسطوته. وإذا كان الاستعمار الأوروبي الكلاسيكي قد سقط رسميا في منتصف القرن العشرين، فإن الكيان الصهيوني يمثل استمرارا حيا له، بنموذجه الإحلالي الأول الأكثر فجاجة: احتلال الأرض وتغيير معالمها وإعادة تسميتها، إبادة السكان وتهجيرهم، مصادرة التاريخ، وإلغاء مقومات الوجود الفلسطيني.

إنّ أخطر ما في هذه اللغة أنّها لا تكتفي بنفي وجود الشعب الفلسطيني والتنكر لحقوقه، بل تعلن تحدّيها للعالم بأسره، مؤكدة أن منطق القوة وحده هو الذي يشرع الوجود والسيادة.

البعد الفلسفي – الأخلاقي

في إعلان «نحن أسياد الأرض» يتجلى جوهر فلسفة تقوم على ادعاء مسياني باحتكار الخير وفريضة مواجهة الشر، وتصنيف البشرية بين أخيار بيض يمتلكون الحق المطلق في الحياة وآخرون أشرار يتم تجريدهم من إنسانيتهم. فالخطاب هنا لا يتحدث عن علاقة بين كيانات متساوية، بل عن علاقة بين أجناس متفاوتة: بعضهم بشر بيض، أسياد، والآخرون وحوش بشرية، يباد من يتمرد منهم. من يملك القوة يملك الحق، ومن لا يمتثل يُمحى.

تذكّرنا هذه اللغة بأشد لحظات التاريخ ظلاما، حين صيغت حضارة الحداثة المادية الغربية العنصرية على قاعدة التفوق العرقي والاستعباد وإبادة الشعوب الأصيلة. الأخطر أنّ مثل هذا الخطاب يحاول تطبيع فكرة أنّ العدالة ليست قيمة كونية، بل امتياز يمنحه الأقوى لمن يشاء.
وبهذا المعنى، فإن الرسالة لا تهدد الشعب الفلسطيني فحسب، بل تُعلن سقوط المرجعية الأخلاقية التي قامت عليها البشرية الحديثة بعد الحرب العالمية الثانية.
فما قيمة «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» إذا كان يحقّ لطرف أن يقرّر مصير الآخرين بوصفه «سيد الأرض»؟
وما معنى «العدالة» إذا تحوّلت إلى منحة من المستعمر؟

إنّ مواجهة هذا المنطق ليست شأنا سياسيا فقط، بل معركة فكرية وأخلاقية تحدد إن كنّا ما نزال نؤمن بإنسانية مشتركة، أم أننا نقبل الانزلاق مجددا إلى عالم يتحدد فيه الإنسان بمدى قوته وقدرته على الإخضاع.

البعد الدولي- السياسي

لا يمكن قراءة خطاب «نحن أسياد الأرض» بمعزل عن السياق الدولي الذي يُطلق فيه. فالمقصود ليس فقط تكريس الهيمنة على الشعب الفلسطيني، بل توجيه رسالة صريحة إلى العالم بأسره:
أنّ القانون الدولي، ومبادئ الأمم المتحدة، وأعراف العلاقات بين الدول، ليست سوى أوراق بلا قيمة أمام إرادة القوة التدميرية للعقل الأداتي الذي يرى حقا مطلقا في فرض إرادته على العالم. ويضفي عليها قداسة التفويض الإلهي: فدونالد ترامب مبعوث العناية الإلهية، ونتنياهو ممثل شعب الله المختار ومنفذ وعده.

هنا يتبدى منطق خطير: تحويل مجلس الأمن الدولي، الذي يفترض أن يكون ساحة لحماية حقوق الشعوب، إلى منصة لابتزازها وتهديدها علنا. بهذا المعنى، فإن الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني لا يكتفون بانتهاك القرارات الأممية على الأرض، بل يسعون إلى إعادة تعريف وظيفة منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومؤسسات العدالة الدولية ذاتها، مثل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، من مؤسسات لضبط القوة إلى مسارح لاستعراضها.

هذا المسار، إذا ما قُبل بالصمت، يعني أنّ النظام العالمي برمته يدخل مرحلة تآكل داخلي، حيث تصبح السيادة مرادفا للقوة العسكرية والمالية والاقتصادية فقط.
إنّ ما يُطرح أمامنا ليس صراعا محليا أو إقليميا، بل مسألة مصيرية تخص مستقبل العلاقات الدولية: هل سيبقى للعالم قانون مشترك ومرجعية أخلاقية، أم أن منطق «الأسياد» سيتحول إلى القاعدة الحاكمة، ليُشرعن الاستعمار مجددا كأفق عالمي؟

البعد الوجودي

خلف خطاب «الأسياد» يكمن سؤال أعمق يتعلق بمعنى الوجود ذاته. حين يعلن طرف ما أنّه المالك المطلق للأرض والحق في تقرير مصير الآخرين، فهو لا يسطو على الجغرافيا وحدها، بل على كرامة الإنسان وحقه في أن يكون. الفلسطيني والعربي وغير الأبيض في هذه المعادلة يُجرد من كيانه: لا ينظر إليه كطفل أو أم أو شيخ، بل كعائق ينبغي إزالته أو إخضاعه. وهنا تكمن فداحة الخطر: تحويل البشر إلى «ظلال» لا يحق لهم سوى الصمت أو الفناء.

إنّ هذا المنطق لا يهدّد الفلسطيني والعربي والمسلم فقط، بل يوجّه رسالة كونية: أن الضعفاء جميعا، في أي مكان من آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، بل وداخل الدول الغربية نفسها، يمكن أن يُحرموا من حقهم في الوجود إذا قرر «السيد القوي» أنّهم لا يستحقونه.

في المقابل، فإن جوهر المقاومة – بأشكالها كافة، من الفكر إلى الفعل – هو رفض هذا النفي، وإعادة تعريف الوجود بوصفه فعلا إنسانيا مشتركا لا يُقاس بالقوة المادية وحدها.
بهذا المعنى، يصبح الفلسطيني – ومن خلفه كل المقهورين على امتداد العالم – شاهدا على معركة وجودية كبرى: إما أن يُفرض منطق «الأسياد» على العالم، وإما أن يُعاد الاعتبار للإنسان كقيمة عليا تتجاوز منطق الاستعباد والاستعلاء.

الاختبار الأخير للعالم: الأسياد أم الإنسانية

إنّ خطاب «نحن أسياد الأرض» ليس مجرد تهديد سياسي عابر، بل لحظة كاشفة تختصر جوهر الاستعمار في عصرنا: منطق القوة فوق الحق، والاستعلاء فوق الإنسانية، والهيمنة فوق القانون. في هذا الخطاب يتجلّى التقاء التاريخ الاستعماري بالممارسة الإمبريالية الصهيونية العنصرية، وينكشف عجز النظام الدولي عن حماية القيم التي ادّعى أنّه تأسس عليها.

لكن الأهم من ذلك أنّ هذا الخطاب يضع العالم أمام مفترق طرق: إمّا أن يُقبل منطق «الأسياد» كقاعدة جديدة للعلاقات البشرية، فننحدر جميعًا نحو فوضى تستباح فيها الأرض والإنسانية معًا، أو أن يُواجه بوعي نقدي وموقف أخلاقي يعيد الاعتبار لفكرة العدالة بوصفها قيمة كونية لا تقبل المساومة.

وإذا كان قادة تظام الحداثة الغربي المادي العنصري المهيمن يصرّون على إعلان سيادتهم المطلقة، فإنّ صوت الطفلة الفلسطينية نسرين التي قالت: «أنا شو ذنبي طفلة أتوجع»، يمثل النقيض الأعمق لهذا الادعاء. فبراءة الأطفال وحق الشعوب في الحياة لا يمكن أن تمحى بسطوة السلاح.

إنها معركة تتجاوز فلسطين والعالم العربي والمنطقة لتشمل مصير الإنسانية بأسره: إمّا أن يبقى الإنسان سيدًا لكرامته، أو أن نترك الأرض لمنطق الأسياد الزائفين وقانون الغاب.
المعركة اليوم ليست للنصر أو الهزيمة على خريطة، بل لاستعادة الاعتراف الإنساني كمرجعية لا يقهرها السيف والمال.

 

في زمن تختلط فيه معايير الحكم على الحضارات بين دعاوى “التقدم” الغربي وموروثات الحضارات الأصيلة، تبرز الحاجة إلى إطار نظري عادل يعيد الاعتبار للقيم والمعايير الإنسانية الحقيقية. فليست القوة المادية ولا تراكم الثروة على حساب الآخرين معيارا للتفوق، بل القدرة على إنتاج المعرفة، صون الكرامة، وتحقيق العدالة والحرية للإنسان. هذا المقال محاولة لإعادة ضبط بوصلة المقارنة، بعيدا عن أساطير الهيمنة واستلاب القيم، نحو رؤية تحررية تستند إلى الأصالة وتفتح أفقا جديدا للنهوض.

الإطار النظري الذي يحدد المرجعيات القيمية والمعايير التي تُبنى عليها المقارنة.
هذه الخطوة تمنع الانحياز، وتوضح ما نعنيه عند الحديث عن “الحرية
و” الديمقراطية” و” حقوق الإنسان”.

أولا: المرجعيات القيمية:

الحرية: القدرة على الاختيار والفعل دون قهر أو إخضاع، تشمل الحرية الفردية، الاجتماعية، والسياسية، مع مراعاة المسؤولية الأخلاقية تجاه الآخرين.
الديمقراطية: نظام مؤسسي يضمن المشاركة الفعلية للناس في اتخاذ القرار، المساءلة، والشفافية، وليس مجرد مظاهر شكلية.
حقوق الإنسان: حقوق شاملة لكل إنسان، بغض النظر عن العرق أو الدين أو الجنس، تشمل الحق في الحياة، الكرامة، التعليم، الصحة، والتعبير.

ثانيا: معايير وأدوات القياس

لكي تكون المقارنة علمية وموضوعية، يتوجب استخدام معايير محددة:
شمولية الحقوق: مدى تطبيق الحقوق على الجميع، وليس على فئة محددة.
العدالة الاجتماعية: توزيع الموارد الاقتصادية والسياسية بشكل عادل بين السكان.
التراكم المعرفي: قدرة المجتمع على إنتاج ونقل المعرفة والعلم عبر الأجيال لخدمة الإنسانية.
الاستدامة والقيم الأخلاقية: احترام الإنسان للطبيعة وللآخرين ضمن منظومة قيمية متماسكة.
الاستقلالية والسيادة: قدرة المجتمع على اتخاذ قراراته دون تبعية خارجية أو هيمنة مستمرة.

ثالثا: مبدأ المقارنة الصحيح

لا يمكن المقارنة من الحاضر فقط، لأن الوضع الحالي هو نتيجة تراكمات تاريخية، سيطرة استعمارية، ونهب الموارد.
المقارنة يجب أن تشمل الجذور التاريخية والقيم المؤسسة لكل حضارة: ماذا أنتجت من نظم قانونية، علمية، فلسفية، وفنية؟ كيف نظمت المجتمعات؟ ما هي رسالتها الأخلاقية؟
يجب التمييز بين الإنتاج الحضاري الذاتي وبين ما جاء نتيجة استلاب حضاري من حضارات أخرى.

رابعا: تطبيق الإطار لقياس منجز الحضارات الأصيلة والحداثة الغربية:

1. الحضارات الأصيلة: تراكم المعرفة والقيم

الحضارات القديمة، بما فيها الحضارة الاغريقية الصينية، الهندية، المصرية، العربية، الإسلامية، الخ …أنتجت منجزات هائلة على صعيد القانون والفلسفة والعلوم والفنون:
القوانين: شريعة حمورابي تقدم نموذجا مبكرا للعدالة والمساءلة، بينما الحضارة الإسلامية أنتجت نظما قانونية متقدمة تستند إلى مبادئ أخلاقية واجتماعية.
الفنون والمعمار: الأهرامات، العمارة الصينية، العمارة الرومانية، المدن الإسلامية، تعكس قدرات تنظيمية وفنية هائلة، تعكس رؤية حضارية شاملة.
القيم الأخلاقية والروحية: العدالة، التضامن، احترام الإنسان، وتنظيم المجتمع وفق منظومة متماسكة من القيم الروحية والأخلاقية.
الفلسفة والعلوم: الرياضيات والفلك والطب والمنطق في الحضارات العربية والهندية والصينية أسست أسس التراكم المعرفي العالمي.
هذه الحضارات كانت تراكما معرفيا متواصلا لخدمة الإنسان والمجتمع، ولم تبن على إبادة شعوب أو نهب مستمر للقارات الأخرى.

2. حضارة الحداثة الغربية، اللاحضارة

مع بزوغ الحداثة الأوروبية في القرن الخامس عشر الميلادي، حدث انقلاب جذري في مسار الحضارة الإنسانية، وأعادت هندسة العالم وفق مركزية العرق الأبيض:
الرأسمالية والتوسع الاستعماري: أعطت الأقلية الأوروبية / العرق الأبيض حصرية الحق في تراكم الثروة عبر السيطرة على شعوب العالم ونهب مواردها.
الإبادة والاستعباد: ملايين البشر قتلوا أو أبعدوا، واستعبدوا لتغذية الاقتصاد الصناعي الأوروبي، بينما تم محو حضارات بكاملها.
استلاب المعرفة: العلوم والفلسفة والفنون التي أنتجتها حضارات أخرى تم السطو عليها ونسبها للغرب وجيرت لخدمته فقط.
الانقلاب على القيم الروحية والأخلاقية التي تقيد جموح الغرائز وتخضعها للمساءلة والمحاسبة تم استبدالها بقيم مادية وفقا لمعايير الربح والخسارة بلا أي ضوابط قيمية أو اخلاقية. وبالاحتكام إلى موازين القوى المادية / العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية / كناظم وحيد للعلاقات الخارجية/بين الأمم والشعوب/ والداخلية، بين الأعراق والإثنيات والأجناس والأديان والطوائف والطبقات الاجتماعية.

3. توزيع الغنائم وموازين القوى

أوروبا وأقلياتها البيضاء 15% من سكان الكرة الأرضية أنشأت شبكة من السلطة والوفرة قائمة على نهب العالم.
شعارات “الحرية والديمقراطية” التي بقيت حكرا على الأقوياء والمستفيدين من الغنائم المتأتية من إبادة الشعوب ونهب مواردها واستعبادها على مدى ستة قرون.
الحرية والديمقراطية الغربية وحقوق الإنسان لم تكن سوى أدوات لتوزيع هذه الغنائم داخليا بين المستغلين، مع استبعاد الأغلبية المسحوقة.

ألا يلفت النظر كيف تتعايش قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان مع دعم وتسويغ حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة؟ ومع استمرار النهب الاستعماري لإفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية؟
بل وكيف يمكن أن يقبل نظام الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في بلد الحريات كفرنسا بمتحف بالقرب من برج إيفيل/ مقبرة/ يحوي 500 من جماجم قادة الثوار المسلمين، ويتم التعامل معه كمعلم سياحي، وتنظم رحلات مدرسية للطلبة للزهو بالتاريخ الفرنسي؟
أي تقدم اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي يراد لنا الاقتداء به لم يكن نابعا من تفوق حضاري أصيل، بل من هيمنة استعمارية تاريخية على العالم على مدى قرون، وإعادة توزيع ثرواته وموارده المنهوبة لصالح الأقلية البيضاء المهيمنة؟

خامسا: نقد المقارنات وفقا لمرجعية “الحضارة الغربية

مقارنة الحضارة الإسلامية أو أي حضارة أصيلة بالحاضر الغربي هي مضللة، لأنها:
تقيس الحاضر الذي يشكل نموذجا منفصلا عن قيمه ورسالة أصله.
تتجاهل الجذور التاريخية، تراكم المعرفة، وظروف الاستعمار التي أعاقت الشعوب الأخرى
النقد الصحيح يجب أن يكون ضمن سياق الحضارة نفسها: إنجازاتها، قيمها، ونظامها الأخلاقي والاجتماعي، مع التمييز بين ما أنتجته بنفسها وما استلبه الآخرون.
الحداثة الغربية ليست مرجعية ولا معيارا للتفوق الحضاري، بل نموذج لاستلاب واحتكار للمعرفة والقيم الإنسانية لصالح أقلية عنصرية مسيطرة.
الحضارة الحقيقية تُقاس بقدرتها على شمول الإنسان بالحقوق والمعرفة والعدالة، لا بسطوة القوة أو تراكم الثروة على حساب الآخرين.
أي حديث عن “تقدم الغرب” بدون الإشارة إلى الإبادة، النهب، وإعادة توزيع الغنائم هو تاريخ مزيف وأداة لتبرير الهيمنة.

سادسا: إصلاح العطب الذاتي النبيوى ضرورة حتمية للنهوض

ما تقدم لا يحجب الضرورة الملحة للمراجعة النقديةالجادة لأعطابنا الذاتية كشرط لا غنى عنه للنهوض، ومعالجة التشوهات البنيوية التي ورثناها عن قرون طويلة من الاستعمار، بما خلفه من اختراق عميق في مجتمعاتنا، واستقطاب للأنظمة والنخب، وانفصالها المتزايد عن الشعوب. فالهشاشة الداخلية الراهنة ليست قدرا مطلقا، لكنها نتاج تاريخ طويل من الاستعمار والتبعية والاستلاب والانسلاخ عن الجذور الحضارية.

ولن يكون النهوض ـ كما قد يتوهم البعض ـ باقتفاء أثر الغرب أو تكرار نموذجه، لأن هذا النموذج ذاته يقوم على الاستعمار، الاستعباد، الإقصاء، الهيمنة، وتوزيع الغنائم.
النهوض الحقيقي لا يمكن أن يكون إلا برؤية نهضوية إنسانية تحررية تستند إلى القيم الحضارية الأصيلة وتساوي حقوق جميع البشر في الحياة والحرية والعدالة والكرامة، وتستجيب في الوقت نفسه لاحتياجات الناس الملموسة ومصالحهم الحقيقية. رؤية تعيد وصل الفكر بالفعل، والقيادة بالشعوب، والماضي بالمستقبل، في مشروع تحرري جامع يفتح أفقا جديدا للتاريخ الإنساني
فالتاريخ لا يبنى بسطوة القوة، بل برؤية تحررية تعيد للإنسان إنسانيته.
إن معيار الحضارة الحقّة هو قدرتها على إنتاج عدالة إنسانية شاملة

 

لأستاذ العزيز عادل الأسطة

قرأت مقالك ” غزة 716 :
ما هي مهمة الكاتب الفلسطيني في هذه ” المفرمة “؟ بتمعن ، ولفتني أنه في كل مرة يُطرق فيها الخزان، يُحاصر الطارق بدل أن يُوسَّع الثقب، وكأننا ارتضينا الموت صامتين.

استنتاجك حول خيارات الحسيني وكنفاني وحبيبي مهم، لكن ما أراه هو أن تجربتي الحسيني وحبيبي عشناهما بالفعل، فيما سؤال غسان بقي معلَّقًا لغياب قيادة وطنية مؤهلة تعرف كيف تدق على جدران الخزان بالشكل الصحيح. لقد ظللنا نراوح بين الهجرة والصمت، والطرق الخجول على الخزان منذ ثلاثينيات القرن الماضي وصولا إلى أوسلو وما تلاها، فكانت كل محاولة جادة تُجهض وتُحاصر.

حتى حين جرى الطرق الحقيقي على الخزان في “طوفان الأقصى”، كان الصدى مختلفًا؛ لأول مرة سُمع صوت الداخل وكُشف المجرم، فاستيقظ العالم على مظلومية شعب يُذبح منذ قرن. لكن بدل أن نوسع الثقب الذي أحدثه الطرق، انشغلنا بجلد من طرق عليه ومحاولة إسكاته لأنه “أخضر اللون”، وكأننا ارتضينا البقاء في الخزان حد الاختناق والموت البطيء بصمت.

وعليه، لم تعد مهمة الكاتب والمثقف اليوم يا عادل مقتصرة على التوثيق وفضح العدو وحماية الذاكرة وتثبيت الحق بالجلوس على “الخازوق” كما قال حبيبي، بل أصبحت أيضًا فضح الذات والتساؤل عن مدى إسهامنا نحن في ما وصلنا إليه، والدعوة إلى التوقف عن لوم الديك الذي صاح – حتى لو لم يكن لونه على هوانا – لأنه أيقظ العالم على صراخ من في الخزان.
وربما الأجدر أن نرد على سؤال من يلومك على عدم لوم “الديك الأخضر” بسؤال آخر: أين الأصفر والأحمر والأبيض؟ وهل حسموا خياراتهم فعلا، أم ارتضوا البقاء وحشر الشعب في الخزان حد الاختناق والموت بهدوء ، حتى بعد أن صحا العالم وبات ممكنا الخروج منه لو وعوا وأرادوا؟

دمت يقظا مثابرا على الطرق على الخزان

 

مشاركة: