الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   13 أيلول 2025

| | |
ربحي الطري… رجل حمل فلسطين في قلبه إلى كل مكان
غانية ملحيس

في لحظة الغياب، تتجلى السيرة كمرآة صافية، تعكس وجوه الرجال الذين لم يعيشوا لأنفسهم، بل حملوا أوطانهم في صدورهم. هكذا نودّع أخانا وزميلنا العزيز ربحي محمد مصطفى خليل الطري، الذي غادرنا تاركا خلفه أثرا لا يمحى في ذاكرة الوطن.

ولد ربحي الطري عام 1948 في قرية بيت صفافا بالقدس، في عام النكبة الذي وسم حياته وحياة جيله بطابع الفقد والتشرد. منذ طفولته، عاش بين القدس والكويت، بين البقاء مع الجذور والرحيل في طلب الرزق والعلم. كان منذ صغره مدركا أن درب الحياة ليس مفروشا بالراحة، لكنه ظل مؤمنا أن فلسطين هي البوصلة التي تهب لكل معاناة معناها.

في المغرب، حيث درس في جامعة محمد الخامس، تفتحت روحه على عالم الفكر والسياسة، وتخرج عام 1972 حاملًا بكالوريوس الاقتصاد والعلوم السياسية، ثم واصل دراسته العليا حتى نال الماجستير في القضاء العالي. لكن تحصيل العلم لم يكن عنده منفصلا عن الانتماء، بل كان جزءًا من معركة الوعي التي خاضها منذ شبابه. لذلك انخرط مبكرا في صفوف حركة “فتح”، وكان من قيادات اتحاد طلبة فلسطين في المغرب، يزرع بين زملائه الأمل بأن فلسطين ستبقى حيّة في القلوب والعقول مهما بعدت المسافات.

لم يكن ربحي الطري رجل قاعات مغلقة، بل رجل ساحات وميادين. من الجزائر حيث علّم اللغة العربية، إلى بيروت حيث شارك في الدفاع عن الثورة الفلسطينية عام 1982، ظل حاضرًا في كل محطة من محطات النضال. وعندما التحق بجامعة الدول العربية، متنقلًا بين تونس والقاهرة ومالطا وطوكيو ونيودلهي ودمشق، لم يكن مجرد دبلوماسي يؤدي واجبات وظيفية، بل كان رسولا لفلسطين، ينقل صوتها إلى المنابر الدولية، ويذكّر العالم أن هناك شعبا يطالب بحريته وعدالته.

عرفه كل من عمل معه بالصدق والتواضع والإخلاص. لم يكن يبحث عن أضواء المناصب، بل عن خدمة وطنه من أي موقع شغله. كان هادئ الحضور، عميق الأثر، وفيا لأصدقائه وزملائه، ومحبا لوطنه حتى آخر يوم في حياته.

برحيل ربحي الطري، نفقد رجلا من الجيل الذي صاغ هويته في المنفى، لكنه لم ينس يوما رائحة تراب القدس. جيل آمن أن فلسطين أكبر من الحدود والجغرافيا، وأنها تسكن القلوب مهما ابتعدت المسافات.

رحم الله ربحي الطري رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته مع الشهداء والصديقين، وجعل من سيرته نبراسًا للأجيال القادمة، وعزاءً لنا جميعًا بأن فلسطين ما تزال تنجب رجالا يظلون أوفياء لها حتى الرمق الأخير.

 

مشاركة: