الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   22 أيلول 2025

| | |
زياد الجيوسي: الكلمة والوطن في حضور أبدي
غانية ملحيس

وكأنه موسم الرحيل للقامات الوطنية، التي لم تعد تقوى على متابعة الإبادة الجماعية المتواصلة في قطاع غزة، ومخيمات الضفة، وعلى امتداد فلسطين الانتدابية والوطن العربي.
يغيب عنا الكاتب والمثقف الفلسطيني زياد الجيوسي. لكنه يظل حاضرا في نصوصه، في الحارات القديمة والأسواق الشعبية، وفي الأزقة التي عرفها منذ الطفولة، قائلا إن فلسطين ليست مجرد مكان، بل روح وهوية، وأن الكلمة فعل مقاومة، وأن الجمال مقاومة أيضا.

لم أحظ بشرف التعرف على زياد شخصيا، لكن كل من يقرأ له يشعر بأن صوته يأتي من عمق الحارة الفلسطينية، من حجارة البيوت العتيقة، من رائحة القهوة والياسمين، ومن دمعة الشهداء وابتسامة الأطفال.

فلسطين في القلب

ولد زياد عام 1955 في الزرقاء بالأردن، وارتبط اسمه منذ الطفولة ببلدة جيوس قرب قلقيلية. منذ صغره، حمل في قلبه هم فلسطين، وعايش آثار النكبات والشتات. فلسطين بالنسبة له لم تكن مجرد تاريخ، بل حياة تتشكل في كل تفاصيلها اليومية: الأزقة، الأسواق، الضحكات، والأغاني الشعبية، التي كانت تسكن ذاكرته وكتابات اليوميات الفلسطينية.

الفتى المناضل

في الثالثة عشرة من عمره انخرط في الثورة الفلسطينية عام 1968، عاش التجربة بين النضال المسلح، والاعتقال، والمطاردة، والمخاطر. هذه التجارب صقلت شخصيته وغرست في وجدانه معنى الوفاء للوطن والالتزام بالقضية. وبعد منتصف التسعينيات، اختار الانسحاب من الفصائل، لكنه ظل مخلصا لفلسطين، مقاوما بالكلمة والثقافة.

بغداد: مدرسة الفهم والوعي

درس الجغرافيا في جامعة بغداد، وحصل على بكالوريوس عام 1976، وقد فتح له هذا العلم نافذة لفهم العلاقة بين الإنسان والمكان، بين التاريخ والجغرافيا، بين الذاكرة والهوية. أصبح المكان في نصوصه كائنا حيا يختزن التجربة الإنسانية للشعب الفلسطيني، وكل شارع أو بيت أو حجر يحمل صوته، وشاهدا على التاريخ، ورافدا للهوية.

بين الأردن وفلسطين

عاش زياد في الأردن فترة طويلة، عمل في مؤسسات رسمية وثقافية:
دائرة الشباب
دائرة شؤون العائدين، التي تهتم باللاجئين الفلسطينيين في الأردن، وتنسق حقوقهم وخدماتهم.

انتقل لاحقا إلى رام الله، حيث تولى إدارة مؤسسة البيدر للثقافة والفنون والإعلام، وكان عضوا فاعلا في النشاط الثقافي الفلسطيني، بما في ذلك مركز خليل السكاكيني الثقافي الذي ترأسه لثلاث سنوات. هذا التنقل بين الأردن وفلسطين، مع فترة الدراسة في بغداد، منح كتاباته رؤية شاملة للوطن بين الشتات والمقاومة في الداخل والخارج، وجعل تجربته مثالا حيا على التفاعل بين النضال الثقافي والإداري والسياسي.

الكلمة كمقاومة: «صباحكم أجمل»

زاويته الشهيرة «صباحكم أجمل» لم تكن مجرد عمود صحفي، بل مشروع ثقافي وفكري مقاوم. كان ينقل القارئ إلى حارات القدس وبيوت نابلس ورام الله، يصف الأسواق والمقاهي والأنغام اليومية، محولا التفاصيل الصغيرة إلى وثائق عشق وذاكرة وطنية. كانت رسالته أن فلسطين حية، وأن تفاصيلها الصغيرة مقاومة ضد النسيان والتهميش الثقافي. وقد نشرت زاويته في صحف ومواقع عدة مثل: الحوار المتمدن، جوهرة العرب، منتدى فنون، وصحيفة رأي اليوم، لتصل إلى جمهور واسع وتوثق تجربته الثقافية والوطنية.

المثقف العضوي

زياد جسّد نموذج المثقف العضوي: الجمع بين النضال والعمل الإداري، والممارسة الثقافية، والإنتاج الفكري، دون انفصال عن هموم المجتمع.
شغل مناصب ثقافية وإدارية بارزة في الأردن وفلسطين.
ساهم في تأسيس وترأس مركز خليل السكاكيني الثقافي.
كان عضوا في اتحاد الكتاب الفلسطينيين، ورابطة الكتاب الأردنيين، ورابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين.
كل هذه الأدوار لم تبتعد به عن الناس، بل زادته قربا من همومهم اليومية، وأكدت أن المثقف الحقيقي يعيش بين الناس، يسمع همومهم ويعكسها في أعماله.

عاشق الإبداع: الرواية والفن والشعر

كان زياد الجيوسي عاشقا للإبداع بكل أشكاله. لم يقتصر اهتمامه على السياسة أو الثقافة الوطنية، بل غاص في أعماق الرواية والفن التشكيلي والشعر، محاولا أن يوصل رسالة فلسطين والجمال في كل تفصيلة. من بين كتاباته الأخيرة:

بكائيات غزة: ما بين المقاومة والإبادة تموز / يوليو 2025
• “عشتار وهمسات من الحديقة” – مقالات وخواطر، تموز/يوليو 2025
• “مع رواية منارة الموت.. من سينتصر؟ الحب أم الرصاصة” – تموز/ يوليو 2025
• “في فضاءات رواية خُلق إنسانًا” – حزيران/يونيو 2025
• “التوليدية من جديد في جرس المعدان” – أيار / مايو 2025
• “قراءة في ديوان ما يشبه الحلم للشاعر عيسى حماد” – شباط/فبراير 2025

حين استمعت إلى همهمات الصخور – شباط 2024

إن أرشيفه الإبداعي يظهر استمرارية عطائه الثقافي والفكري حتى أيامه الأخيرة، ويؤكد أنه كان دائم البحث عن الجمال والحرية والكلمة المقاومة في كل ما كتب، جامعا بين الشغف الفني والانتماء الوطني.

مؤلفاته وإرثه الثقافي

لم يترك زياد الجيوسي فلسطين في نصوصه فقط، بل أحياها أيضا في كتبه ومؤلفاته، التي تشكل إرثا حضاريا وفكريا لكل من أراد أن يعرف فلسطين من خلال العيون الأدبية والثقافية والبحثية. من أبرز مؤلفاته:
فضاءات قزح: قراءات نقدية
أطياف متمردة
أحلام عمانية
ياسمينات باسمة
رؤى في فضاءات الفن التشكيلي
سلسلة بوح الأمكنة: جولات في فلسطين، الأردن، العالم العربي، وأوروبا

كما كتب دراسات نقدية ومقالات أدبية وفكرية، نشرت في صحف ومجلات ثقافية، وغطت مواضيع سياسية واجتماعية وثقافية، مثل الهجرة، المخيمات الفلسطينية، النقد الأدبي، والفن التشكيلي. إن هذه المؤلفات تجعل من زياد الجيوسي مرجعا ثقافيا ومعرفيا لكل من يريد أن يفهم فلسطين ومعاناتها وجمالها في آن واحد.

الإرث المستمر

لا يُقاس إرثه بعدد المقالات، بل بما زرعه في وعي الناس: فلسطين ليست مجرد جغرافيا أو قضية سياسية، بل ذاكرة وجمال ومقاومة. ترك نصوصا ستظل حية، تشجع الأجيال القادمة على الاعتزاز بالهوية، وحماية التفاصيل الصغيرة، ومواصلة العمل الثقافي الوطني بروح المثقف العضوي.

شهادة وجدانية

لم ألتقه شخصيا رغم تشاركنا سكن المدن ذاتها، لكن كتاباته سكنت ذاكرتي ووجدان كل من قرأها. كلما كتبت عن فلسطين أو ذكرت تفاصيلها، كنت أستحضر صوته الذي يذكرنا: «صباحكم أجمل ما دام في القلب فلسطين». تعلمت منه أن الكلمة الصادقة جسر بين الناس والتاريخ، وأن المقاومة تبدأ من الوعي بالجمال والهوية، وأن المثقف الحقيقي لا يبتعد عن الواقع الذي يعايشه شعبه.

الوداع الحاضر

زياد الجيوسي رحل جسدا، لكنه باق في نصوصه، وفي الحارات التي وصفها، وفي روح فلسطين التي أحبها بلا كلل. نموذج للمثقف العضوي الذي يجمع بين الوعي، والإبداع، والمقاومة، ويترك إرثا خالدا للأجيال.

رحم الله زياد، وأبقى كلماته منارة لكل من يريد أن يكون مثقفا ملتزما، حافظا لذاكرة الوطن، وحارسا للجمال الفلسطيني في كل تفاصيله.

 

مشاركة: