الأستاذ المبدع يحيى بركات
سيناريو “فلسطين على المسرح… والعالم أمام الشاشة” جاء كرحلة بصرية ووجدانية آسرة، تحمل القارئ إلى قلب المشهد الفلسطيني وتجعله يعيش تفاصيله وكأنه أمام عرض سينمائي نابض بالحياة.
منذ اللحظة الأولى في لندن، حين ارتفعت الهتافات باسم فلسطين وتلألأت الشاشة بصور غزة، بدا لي وكأنني أرى محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير والشيخ عز الدين القسام يعودون إلى الحياة، ومعهم قافلة الشهداء جميعا، يطلّون من نافذة مفتوحة على الضمير الإنساني. رافقتهم الموسيقى والهتافات التي أخذت تشق جدار الصمت العالمي، وأيقظت فيّ الإحساس العميق بقوة الفن كصرخة مقاومة تتجاوز حدود الزمن والمكان.
وفي نيويورك، أمام قاعة الأمم المتحدة المزدحمة، تجلت براعتك في رسم التوازن الدقيق بين اللغة الدبلوماسية الرسمية، وشلال الدم الذي ما يزال يتدفق في غزة. مشاهدك ذكّرتنا أن السياسة لا تلتفت إلى العدالة إلا حين تتحول دماء الشعوب إلى أنهار، وأن الساسة لا يهرعون إلى غسل أيديهم من دماء الضحايا إلا حين يجد القاتل نفسه في مأزق، فيبحثون له عن مخرج لإنقاذ “قلعة إسبرطة” كما يراها المستوطنون الصهاينة وقادتهم، قبل أن تؤول إلى ذات المصير المحتوم.
أما مشهد “طوفان الاعترافات الدولية” فقد حمل معه صدى “طوفان الأقصى” قبل عامين، فكان مليئًا بالدهشة والأمل معًا. كل توقيع بدا لي كأنه شعاع نور يخترق الخرسانة السياسية التي شكلت سدّا صلبا طوال 78 عامًا، ويبني جسراً للحقيقة الحالمة بالعدالة.
وحضور ترامب “خارج النص” كان لمسة بارعة أظهرت كيف أن المشهد العالمي متعدد الأصوات اليوم، وكيف أن صوت فلسطين - رغم الألم والجوع والعطش والنزوح - يظل يعلو ويصل إلى كل من به صمم.
أما المشاهد الإنسانية في غزة، من أطفال تحت الركام ومهجّرين تحت القصف، فقد بلغت ذروة الوجع الروحي، حتى كاد الصبر يعجز عن الاحتمال. لقد جعلت القارئ يشارك في كل نبضة خوف، وكل ومضة أمل، وكل فعل صمود.
ويكتمل المشهد بصورة أسطول الصمود، سفن صغيرة تكتب في ذاكرة البحر لوحة عنيدة تذكرنا أن المقاومة تتخذ أشكالا تتجاوز السلاح لتصبح إصرارا رمزيا على البقاء والحياة.
وجاء تصويرك للجيش الإسرائيلي، بكل ما يملك من سلاح، وهو يهاب مواجهة شباب يفتدون وطنهم بأرواحهم، ليبرز التناقض بين “حق القوة” و” قوة الحق” في أبهى صوره.
ثم جاء الانتقال إلى الداخل الإسرائيلي، حيث العزلة والمقاطعة الثقافية والسياسية، ليؤكد أن الاستعمار - مهما امتلك من قوة - لا يستطيع إخماد يقظة الضمير الإنساني.
وفي المشهد الأخير، حيث الفلسطيني يراقب العالم ويكتب نصه الخاص بالدم، كانت المفارقة حاضرة بغياب المشاركة المباشرة للرئيس الفلسطيني، بعدما منعه “سيد العالم” الحاضر خارج النص من الحضور. فجاء خطابه مسجلا، خاليا من أي مطالبة بإعادة الاعتبار لقرار الأمم المتحدة رقم 3379 الذي اعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، قبل أن يُلغى عام 1991 تحت شعار “جهود السلام”. خطاب خلا حتى من أضعف الإيمان بالمطالبة بمثول إسرائيل أمام مؤسسات العدالة الدولية، وتغافل عن شكر جنوب إفريقيا التي بادرت بجرأة إلى مقاضاة الاحتلال.
خطاب جدد فيه اعترافه – للمرة الثالثة – بحق إسرائيل في الوجود الآمن على 78% من أرض فلسطين الانتدابية، معلنًا امتثاله للشروط، واستعداده لنزع السلاح وتغيير المناهج التعليمية خلال عامين، متعهدًا بإقامة “ديموقراطية فريدة” لا مكان فيها لمن لا يلتزم بشروط الإذعان. ولم ينس أن يهنئ الشعب الذي يدعم غالبيته الساحقة محو الشعب الفلسطيني بالسنة العبرية الجديدة، قبل أن يعزي شعبه المثخن بالجراح، الهائم على وجهه في الطرقات وبين الركام، يبحث عن موطئ قدم. والمفارقة الكبرى أن رئيس البرتغال الذي تبعه أعلن اعتراف بلاده بدولة فلسطينية كاملة السيادة، ثم أعقبه الرئيس الإندونيسي الذي ربط اعتراف بلاده بإسرائيل باعتراف إسرائيل بدولة فلسطين.
ورغم غياب المشهد “السيريالي” الفلسطيني الرسمي، فقد نجحت يا يحيى بمهارة ملفتة في جمع السياسة والفن والإنسانية في نسيج واحد، وحوّلت الأحداث العالمية إلى تجربة حسية وفكرية عميقة.
لقد جعلتنا نعيش كل لقطة، ونسمع كل صرخة، ونشعر بكل أمل، ونخرج أكثر وعيا بعمق جراحنا، وأكثر إصرارا على أولوية التغيير الذاتي، لالتقاط اللحظة التاريخية التي فتحتها غزة بتضحياتها الجسيمة، من أجل استعادة الوجود الفلسطيني ماديا، بعد أن استعادته غزة رمزيا.
شكرا لك على هذه الرحلة التي كتبتها بريشة القلب والعقل معا، وجعلتنا نرى كيف يمكن للفن أن يتحول إلى مرآة للمقاومة، وإلى جسر للعدالة.