قراءة استكمالية لمقال يحيى بركات "ناصر القدوة … عودة إلى الظل لا الى الضوء"
الصديق العزيز يحيي بركات
قرات مقالك بتمعن، وإذ اتفق معك، إلا أنني أرى أن أزمة النظام السياسي الفلسطيني أعمق وتتجاوز الأشخاص إلى البنية، وأن لا مخرج منها إلا بمراجعة استراتيجية شاملة لتجربة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وفي مقدمتها حركة فتح، التي ينبغي عليها، إن أرادت استعادة وجودها كفاعل سياسي، المسارعة إلى مراجعة خياراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإدارية والإعلامية والتنظيمية، وعلاقاتها الداخلية والخارجية، وتحالفاتها الفلسطينية، والعربية، والإقليمية، والدولية.
وهو، باعتقادي، ما لا تقوى عليه الطبقة السياسية والنخبوية المسؤولة عن التيه السياسي، والتعصب الفئوي، والترهل التنظيمي، والانفصال عن الشعب، والانغماس في التنافس على المواقع في مؤسسات إدارة حكم ذاتي محدود، بصلاحيات بلدية، وتمويلٍ مقيّد ومشروطٍ بضبط الشعب. فالسلطة تعيش على أجهزة التنفس الاصطناعي، وبقاؤها أصبح رهنًا بقرارٍ خارجي، منذ أن اختارت النخب الاحتماء بالخارج لا بالشعب.
أمام فتح والدوائر النخبوية فرصةٌ أخيرة، إن أرادوا استغلالها، بالاستفادة من الديناميات التي أتاحها طوفان الأقصى، وصمود المقاومة وحاضنتها الشعبية، على الصعد المحلية والعربية والإقليمية والدولية، لاستعادة زمام المبادرة، بتوحيد الصف الفلسطيني حول مشروعٍ وطنيٍّ تحرريٍّ لإنهاء الاحتلال، والإفادة من تعزّز فرص تحقّقه، ومواكبة تضحيات الشعب الفلسطيني.
وهذا يتطلّب ثورةً على الذات، وأعتقد أنه لا يقوى عليها سوى جيلٍ جديدٍ تفرزه الميادين والقواعد الشعبية داخل الوطن وخارجه، لا ينشغل بـ “اليوم التالي” الذي يخطط له الخارج، بل بالتخطيط لليوم الوطني الذي يحفظ الوجود الفلسطيني، ويوفّر مستلزمات الصمود، ويعي صعوبة المرحلة، ويستعد للتضحية مع الشعب، ويحتمي به، ويثق بقدرته على التأسيس لليوم التالي ببُنى وطنيةٍ قاعديةٍ، تنظيميةٍ ونقابيةٍ وأهليةٍ، تنطلق من المخيمات والقرى لمواجهة التغول الاستيطاني، وحماية الناس، وممتلكاتهم، ومقدساتهم.
فالشعب قادرٌ على تغيير موازين القوى على الأرض عند إشراكه في الدفاع عن حقوقه الوطنية ومصالحه الجمعية.
من لم يَعِ، بعدُ، أن سبب انفضاض الناس عن فتح وعموم النظام السياسي الفلسطيني هو التباين بين إرادة الشارع وحسابات النخب، فبينما يدفع الشعب الفلسطيني ثمن وجوده دمًا ودمارًا، تتعامل القيادات السياسية والدوائر النخبوية كرهينةٍ لبُنى سياسيةٍ واقتصاديةٍ صُمّمت أصلًا لضبطه وإضعافه.
إن النهوض الفلسطيني يحتاج إلى فكرٍ سياسيٍّ جديدٍ يواكب الأداء الكفاحي للشعب الفلسطيني، ويقدّم إجاباتٍ سياسيةً ومؤسساتيةً عاجلة، ويصوغ مشروعًا نهضويًا تحرريًا، إنسانيًا وديمقراطيًا، يتمسك بالحقوق الوطنية والتاريخية الثابتة غير القابلة للتصرف، ويفرّق بين الاستراتيجية والتكتيك الظرفي، ولا يعيد تعريف الحقوق وفقًا لموازين القوى. فالحق ثابت، مِلكٌ للأجيال، وليس لأي جيلٍ الحق في إعادة تعريفه بذريعة الحكمة والواقعية السياسية.
وتُناط قيادة تحقيق المشروع التحرري بوطنيين فلسطينيين مؤهلين، يتقدّمون النضال، ويثق الشعب بانتمائهم، وإخلاصهم، ونزاهتهم، وجاهزيتهم للتضحية بالذات من أجل بلوغ الأهداف.
هكذا اكتسبت فتح مشروعيتها، وهذا فقط ما يمكنها من استعادة ثقة الشعب وتجديد التفويض بقيادته. وهذا هو طريق التغيير، ولا طريقَ سواه.
فالجدارة والمصداقية لا تُكتسب بالوراثة، ولا بالاتكاء على تاريخٍ مضى وانقضى، بل تُبنى بالثبات والتراكم.
والشعوب ليست مجرد رعايا كما يعتقد كثيرون، فالشعب الفلسطيني اكتوى وعيُه لأنه دفع الثمن دمًا ودمارًا، ولم تعد تنطلي عليه الشعارات والوعود، وهو أذكى مما يظن قادته، وإن بدا البعض ينافق النخب لتسيير شؤونه، بعدما أصبح ذلك السبيل الوحيد المتاح.
لكنه لا يثق بقادة إلا بمن يراهم نموذجًا يُحتذى بسلوكهم قولا وفعلا.