الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   14 تشرين الأول 2025

| | |
غزة: المحور الكوني للسلام والحرب
غانية ملحيس

غزة ليست مجرد قطاع صغير محاصر، أو مسرح لحرب إبادة جماعية غير مسبوقة في وحشيتها للإنسان والمكان والتاريخ والذاكرة. بل هي مركز رمزي وتاريخي يحدد مسار السلام والحرب على مستوى المنطقة والعالم. 

من خلال صمودها ومقاومتها وتضحيات أهلها، وتحليهم باليقين بأن الحق ثابت لا يعاد تعريفه في لحظة القوة، تتحول غزة إلى مقياس للعدالة والوعي السياسي، بحيث تغدو كل محاولات إعادة ترتيب النظام الإقليمي والدولي مرتبطة بما يحدث على أرضها.

غزة كبوصلة عالمية

غزة تؤكد أن السلام والحرب تبدآن من فلسطين. بثباتها وتمسكها بالحقوق الوطنية والتاريخية الثابتة للشعب الفلسطيني، وبمرتكزها الحرية والعودة وتقرير المصير، ورفضها الخضوع لحق القوة، تتقدم غزة كمركز قادر على إعادة تشكيل خريطة القوة العالمية وإعادة تعريف أولويات الأمن والسلام.

ولأول مرة، صدق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بقوله إن العالم كان على شفا حرب عالمية ثالثة، فقد أعادت غزة تموضع فلسطين كبداية للحرب والسلام على مستوى العالم، وفتحت نافذة لفهم أعمق لدور فلسطين في تحديد مسارات السياسة العالمية، فكان الاعتراف الدولي الساحق (154 دولة في اجتماع نيويورك 22/9/2025) بدولة فلسطين.

خطاب ترامب في الكنيست: الرمزية الغائبة 

في خطاب ترامب أمام الكنيست الإسرائيلي صباح اليوم 13/10/2025، استخدم لغة مشحونة بالرمزية الدينية والسياسية حين أعلن عن “الفجر التاريخي لشرق أوسط جديد” ونهاية “عصر الموت والدمار”. 

ورغم الطموح الشعوري في خطابه، تغفل هذه اللغة المتعالية المعطى الفعلي الذي صنع التغيير: غزة.

فالتهدئة وإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين لم يكن نتاجًا مجردًا للسياسة الأمريكية أو للقوة العسكرية الإسرائيلية، بل كان نتاج واقع غزة، ومقاومتها وصمودها وتضحيات أهلها واستعصائهم. 

وعليه، يمكن القول إن ترامب صدّق ضمنيًا على الدور المركزي لفلسطين، ولو لم يصرح بذلك صراحة. فقد أظهر خطابه في الكنيست بداية تحول من التهديد بجهنم والتركيز على القوة العسكرية، إلى التركيز على بناء السلام. بعد أن أثبتت غزة على مدى أكثر من عامين من المقاومة الباسلة والصمود الأسطوري، حدود القوة العسكرية- مهما بلغت سطوتها - وعجزها عن الحسم.

خطاب ترامب في شرم الشيخ: التحول من الرمزية إلى الواقعية

على النقيض من خطابه في الكنيست، ركّز خطاب ترامب في قمة شرم الشيخ في اليوم نفسه 13/10/2025، على التحول من الرمزية إلى السياسة العملية التي يبرع فيها رجل الصفقات. فقد أعلن عن بدء التحول في السياسة الأمريكية، يشمل تبادل الاسرى، وتثبيت وقف إطلاق النار بالتعاون غير المعلن مع حماس لضبط ما أسماه بالفوضى، والتزام إسرائيل بوقف القتل والبدء بالانسحاب التدريجي، وإدخال المساعدات الإنسانية، وإعادة إعمار غزة بقيادة رجال الأعمال الأمريكيين وأموال الدول الخليجية الثرية. والتعاون مع الأطراف العربية والإقليمية والدولية لبدء السلام الإقليمي، دون استثناء إيران.

بدا ترامب حريصًا على تجاوز مستلزمات ذلك، فاختزل قضية فلسطين بقطاع غزة، واختزل التسوية بالمساعدات الإغاثية والإعمار، مستنسخًا التجارب الفاشلة للسلام الاقتصادي، باعتبارها جوهر “الديانة الإبراهيمية الجديدة” التي يبشر بها المخلص ترامب، تاجر العقارات، الذي يرى أن الولايات المتحدة الأمريكية تستعيد عظمتها وتكرّس تفردها بالقيادة العالمية عندما تدار البلاد والعلاقات الدولية ويعاد ترتيب العالم بمنطق إدارة الشركات ومنهج الصفقات.

 اللافت أن قادة العالم اختاروا التكيف مع جموح ترامب المسياني النرجسي، واعتقاده بأن الله قد أنقذه مرتين لتخليص الولايات المتحدة الأمريكية والعالم، ربما خوفا من انتحار جماعي تتبدى مؤشراته في انقلابه المتسارع على المؤسسات والقوانين الأمريكية والدولية، والتهديد بالقوة التدميرية لكل من لا يمتثل لقراراته. 

وقد فاقم التأييد الساحق كل توقعاته، والحفاوة الهائلة التي حظي بها في أول زيارة خارجية له لبلادنا العربية، والتي أذهله ثراءها، فحصد خمس تريليونات دولار وطائرة رئاسية، رغم مشاركة بلاده في حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، فظن أنه قادر على الفوز بغزة والشرق الأوسط معا، وأعرب عن رغبته في تملك غزة وتحويلها إلى "ريفيرا الشرق الأوسط"، وأمهل الوكيل الصهيوني لإنجاز مهمة تدميرها وتفريغها من أهلها لاعادة بنائها وفق مخططات صهره جاريد كوشنر. 

وعندما اصطدم بثبات غزة وأهلها واستبسالهم في الدفاع عن وطنهم، وبرفض الدول العربية المهدد استقرارها  مسايرته في استيعاب الشعب الفلسطيني الذي سيقتلع من أرضه، وبعجز  وكيله الاسرائيلي،  طوال عامين - رغم كل ما وفرته بلاده من  دعم عسكري ومالي واقتصادي وسياسي ودبلوماسي - من حسم الصراع مع الشعب الفلسطيني، وبات وحيدا مع وكيله في مواجهة العالم ، وفي مواجهة غالبية شعبه -بما في ذلك قاعدته الانتخابية - ونخبها المتنفذة، التي باتت   ترى العلاقة  المرضية التي يعكسها  تبعية الكبير المقتدر للوكيل التنفيذي الصغير، الذي لا يقوى على البقاء الذاتي، ما دفعه إلى بلورة خطته للسلام، وهاله تلقف العالم  لبادرة التغيير، والإجماع الدولي على الإمساك بالفرصة التاريخية، وتوثيقها باتفاق يضمن تنفيذه.

وقد هيّأ المسرح لاستقباله بداية في اسرائيل لإلزامها بوقف حرب الإبادة، وفي شرم الشيخ لحشد التأييد العالمي للاتفاق.

وفي جانبي المسرح، في الكنيست وشرم الشيخ، حظي ترامب بحفاوة بالغة، وأتقن الجمهور المشارك في كل منهما التكيف مع جنون العظمة لمن نصب نفسه فتوة على العالم. 

إلا أن نجاح التحول من الخطاب الرمزي في الكنيست إلى الواقعية السياسية في شرم الشيخ، يظل رهنا بالاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني في الحرية والعودة وتقرير المصير على أرض وطنه.

غزة كمقياس للعدالة والوعي السياسي

تظل غزة محكًا عالميًا للعدالة ومقياساً للوعي السياسي. فمدى قدرة العالم على إدارة النزاعات الكبرى وإقرار السلام الدولي يقاس بما يجري على أرضها: نجاح العدالة في غزة وفلسطين يفتح آفاق السلام على نطاق أوسع، وفشلها يقرب العالم من صراعات أكثر عنفا، عمودية وأفقية، عابرة للحدود والقوميات والأديان، بين الحضارات والشعوب والطبقات المظلومة.

وفي لحظة كان فيها العالم على شفير حرب عالمية ثالثة من نوع جديد، أعادت غزة تحديد أولويات القوى الدولية، ووضعت فلسطين في قلب “بوصلة السياسة العالمية”، ما يفرض إعادة قراءة مفاهيم مثل “الفجر التاريخي” في ضوء الواقع الفلسطيني الملموس، لا مجرد الخطاب الرمزي.

فلسفة غزة والفاعل الفلسطيني

غزة مركز وعي إنساني متجدد، وفلسطين نقطة التقاء التاريخ والجغرافيا والدين والسياسة والإنسانية، ومن تفاعلاتها على أرضها تتولد أحداث ذات أبعاد عالمية.

ومن منظور فلسفي وسياسي، تبرز فلسطين على مسرح الحدث العالمي كفاعل أصيل، لا مجرد موضوع سلبي ينتظر قرارات القوى الكبرى. هنا تتجلى المفارقة بوضوح: فبينما يروج خطاب ترامب لدور أمريكي محوري في صياغة مستقبل المنطقة والعالم، يؤكد الواقع الفعلي - كما تشير غزة - يؤكد أن فلسطين هي التي تحدد مسار السلام والحرب، وأن مواقف القوى الخارجية تتأثر وتتحدد بالتفاعلات على أرضها.

فلسطين كفاعل أصيل في السياسة الدولية

غزة المضرجة بدماء خيرة ما أنجبه الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية، أعادت تموضع فلسطين في صلب السياسة الكونية، ليس من منظور جغرافي فحسب، بل من منظور فلسفي وسياسي، فهي مركز الصراع والقرار، ونقطة البداية لكل صراع عظيم أو مبادرة سلام.

كل محاولة لفرض «الفجر التاريخي» أو «نهاية عصر الحروب» لا بد أن تنبني على إدراك مركزية فلسطين في صناعة الحرب والسلام. وإلا فإن أي خطاب، مهما بلغت قوته وجبروته، سيظل، كما كانت خطابات الأسلاف، شعارات جوفاء لا تترك صدى عمليًا، خالية من القدرة على التأثير في مجرى الأحداث، عاجزة 

عن لمس جوهر الحقيقة، وفاقدة لبوصلة العدالة التي ترسمها فلسطين على أرض الواقع.

 

مشاركة: