حادثة السمكة العملاقة… ومفارقة العالم
تناولت القنوات الفضائية أمس (17/10/2025) نبأ اصطياد سمكةٍ عملاقة تزن طنين في خان يونس داخل قطاع غزة، وسط فرحةٍ كبيرة بين النازحين المجوَّعين.
وتندر بعض الناشطين الفلسطينيين في وسائل التواصل الاجتماعي باحتجاج منظمات حماية البيئة، ودعوتها الصيادين إلى إعادة السمكة إلى البحر، بذريعة أنها من الأنواع المهدَّدة بالانقراض.
وقال أحد المتندِّرين إن الإنسان الغربي مهدَّد بالانقراض.
غزة والبيئة الأخلاقية للعالم الحديث
في عالمٍ تتقدّم فيه الصور على المعاني، وتغدو اللغة مجرّد وسيلةٍ لتجميل العدم، تتجلّى أحيانًا مفارقاتٌ تفوق الخيال في قدرتها على تعرية الوعي الإنساني من زخارفه.
فحين يصطاد أهل غزة سمكةً عملاقةً نادرة، فتسارع منظمات البيئة للمطالبة بإنقاذها وحمايتها من “الانقراض”، بينما يقف العالم صامتًا أمام إبادة عشرات الآلاف من البشر، ندرك أننا لسنا أمام حادثةٍ عابرة، بل أمام صورةٍ مكثّفةٍ لانهيار المقياس الأخلاقي في الحضارة المادية الحديثة.
إعادة تعريف الحياة
لقد أعادت حضارة الحداثة المادية العنصرية تعريف الحياة، فحوّلتها من قيمةٍ وجوديةٍ إلى وظيفةٍ بيولوجية.
صار الكائن الحي يستحق الحماية ما دام لا يهدّد نظام القوة أو يعكّر صفو السوق.
وهكذا يُمنح الكائن غير العاقل حقّ الوجود باسم “التنوّع البيئي”، بينما يُسلب الإنسان العاقل المقهور حقّ الحياة باسم “ضرورات الأمن” أو “قوانين الحرب”.
إنها المفارقة التي تختصر مأساة العالم:
الطبيعة تُحمى حين يُباد الإنسان، والإنسان يُباد باسم حماية الحضارة.
انحطاط الوعي الإنساني
ما تكشفه هذه المفارقة ليس خللًا أخلاقيًا فحسب، بل انحطاطًا أنطولوجيًا (علم الوجود) في تصوّر الإنسان الحديث لذاته وللآخر.
فقد تماهى الغرب المعاصر مع صورته البيئية والأخلاقية إلى حدّ أنه لم يعد يرى في الإنسان سوى مادةٍ للإدارة أو الإقصاء.
إن الكائن الذي يذرف دموعه على سمكةٍ مهدَّدة بالانقراض، ويصمت أمام مشاهد الأطفال المقطَّعين في غزة، لا يعاني من نقصٍ في المعلومات، بل من تكلّسٍ في الوعي وتعطّلٍ في الإحساس بالمعنى.
تشييء الضمير
هنا تحديدًا يظهر أن الأزمة ليست في موت الضمير، بل في تشييء الضمير ذاته، وتحويله إلى وظيفةٍ إعلاميةٍ أو معيارٍ إداريٍّ للمنظمات الدولية.
فالبيئة لم تعد تُفهم بوصفها مجالًا لحماية الحياة، بل أداةً لتجميل عالمٍ فقد إنسانيته.
بهذا المعنى، فإن الخطر الحقيقي على البيئة ليس ارتفاع درجة حرارة الأرض، بل انخفاض درجة حرارة الإنسان.
الإنسان قبل الكوكب
ولعلّ الناشط الغزي الذي قال ساخرًا إن “إنسانيتهم مهدَّدة بالانقراض قبل أي كائنٍ آخر” لم يكن يبالغ، بل كان يضع إصبعه على جرحٍ كونيٍّ مفتوح.
فما يجري في غزة ليس فقط اختبارًا للضمير العالمي، بل محكًّا لقياس صلاحية المفهوم الحديث للإنسانية.
وحين تُباد مدينةٌ بأكملها ولا يهتزّ النظام العالمي، يمكننا القول إن الكارثة لم تقع في غزة وحدها، بل في جوهر الإنسان المعاصر.