الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   22 تشرين الأول 2025

| | |
الانتداب الدولي على غزة: مشروع الوصاية الجديدة وممكنات المواجهة
غانية ملحيس

الجزء الأول: نحو فهم أبعاد المؤامرة الدولية ومشروع “غيتا” لإدارة ما بعد الحرب

غزة اليوم ليست فقط مسرحا للحروب والصراعات، بل مختبر دولي لإعادة إدارة الإنسان والمجتمع. مشروع “غيتا” يبدو وكأنه خطة لإعادة الإعمار والتنمية، لكنه في جوهره أداة لإعادة تشكيل السلطة والاقتصاد والثقافة الفلسطينية وفق رؤية أمريكية -إسرائيلية دقيقة.

هذا المقال يحلل أبعاد مشروع الوصاية الدولية على غزة، المعروف باسم “غيتا”، ويسلّط الضوء على مختلف جوانبه السياسية، الاقتصادية، الثقافية والفكرية. كما يمهّد الطريق لتحديد الممكنات والمستلزمات لمواجهته، والتي ستُناقش في الجزء الثاني

السلطة الانتقالية الدولية لغزة: مشروع الوصاية الجديدة

في أعقاب الحرب، يسعى تحالف نظام الحداثة الغربي الصهيوني المادي العنصري المهيمن إلى إعادة هندسة الوضع السياسي والإداري والأمني في قطاع غزة. الفكرة المركزية تقوم على إنشاء سلطة انتداب دولية لإدارة المرحلة الانتقالية، سواء بعد وقف الحرب أو في حالة انهيار البنية الإدارية القائمة.

لفهم دور “غيتا” بالكامل، ينبغي الاطلاع على هيكلها الأساسي وكيفية توزيع السلطات فيها، لأن هذا الهيكل يكشف العلاقة بين القرارات الدولية والتنفيذ المحلي.

أولاً: ماهية غيتا / GITA

تُنشأ غيتا بموجب قرار من مجلس الأمن الدولي، لتعمل كهيئة انتقالية مسؤولة عن مجموعة من المهام الحيوية في غزة، تشمل:

• إدارة الشؤون المدنية والإنسانية.

• إعادة الإعمار.

• تأمين الخدمات الأساسية مثل الماء والكهرباء والصحة والتعليم.

• التحضير للمرحلة التالية التي يطلق عليها “ما بعد المقاومة وحماس”، من الناحيتين السياسية والأمنية.

الهيكل الأساسي لـ GITA

يتكوّن الهيكل التنظيمي للسلطة الانتقالية الدولية في غزة من عدة مستويات لضمان السيطرة والإدارة:

1. مجلس الأمن الدولي: الجهة التي تصدر القرار المنشئ وتمنح “غيتا” الشرعية القانونية الدولية.

2. مجلس إدارة GITA: يضم ممثلين عن عدد من الدول مثل الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، مصر، قطر، وربما الأمم المتحدة، ويعد الهيئة السياسية العليا للمشروع.

3. المفوض الأعلى أو الرئيس التنفيذي: شخصية دولية، مدنية أو سياسية، تُكلّف بتنسيق الجهود وتنفيذ قرارات مجلس الإدارة (كمثال: توني بلير).

4. الأذرع التنفيذية المتخصصة:

• جهاز لإعادة الإعمار.

• جهاز للأمن الداخلي تحت إشراف إقليمي.

• هيئة إنسانية وإغاثية.

• مجلس محلي من خبراء فلسطينيين لإدارة الشؤون اليومية.

مع فهم هيكل “غيتا”، يصبح من الممكن تحليل الأهداف المعلنة والحقيقية لهذا المشروع، وكيفية تأثيره على السياسة والاقتصاد والثقافة في غزة.

الأهداف المعلنة والحقيقية للمشروع

الهدف المعلن: إعادة الإعمار والاستقرار

تهدف “غيتا” إلى تهيئة غزة لمرحلة الاستقرار وإعادة الإعمار، تمهيدًا لإعادة دمجها في كيان سياسي فلسطيني أوسع، مثل السلطة الفلسطينية المعاد هندستها أمريكيا واسرائيليا بمشاركة دولية وعربية.

الهدف الحقيقي: التمكين الاستعماري والتلاعب السياسي والاقتصادي

يتجاوز المشروع المظاهر الرسمية ليخفي جوهر الصراع، وهو:

• تهميش مسؤولية النظام الدولي عن إنشاء إسرائيل كدولة استعمارية استيطانية إحلالية عنصرية في 78% من فلسطين الانتدابية.

• تجاهل الحدود التي نص عليها قرار التقسيم رقم 181 (29/11/1947) واحتلال نصف المساحة المخصصة للدولة العربية، مع منح إسرائيل عضوية الأمم المتحدة بالقرار 273 (11/5/1949) دون تنفيذ التزاماتها تجاه اللاجئين الفلسطينيين وفق القرار 194 (11/12/1948).

• الاعتراف الدولي بحدود الأمر الواقع بعد اتفاقات الهدنة لعام 1949 مع الدول العربية (مصر، سوريا، لبنان، الأردن) وتأكيدها لاحقًا بالقرارات 242 (22/11/1967) و338 (22/10/1973).

• استمرار الاحتلال الإسرائيلي لبقية الأراضي الفلسطينية منذ 1967، وحرمان نحو 2 مليون فلسطيني داخل إسرائيل من حقوقهم السياسية والوطنية.

• وجود حوالي 7 ملايين لاجئ فلسطيني خارج فلسطين.

• فصل قطاع غزة عن بقية الأراضي الفلسطينية لتفريغ الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، تفكيك المقاومة، وخلق نموذج سياسي وإداري وأمني وثقافي بديل يخدم الرؤية الاستعمارية الأمريكية-الإسرائيلية.

• بالتوازي، تسريع التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية وإعادة هندسة السلطة الفلسطينية سياسيا وقانونيا وأمنيا وإداريا وثقافيا.

بعد توضيح الأهداف المعلنة والحقيقية، يصبح من الضروري تفكيك “غيتا” كأداة استعمارية مقنّعة، لفهم كيفية تحويل غزة إلى مساحة تحت السيطرة دون احتلال مباشر.

غيتا: مشروع استعمار مقنّع لاستكمال السيطرة الصهيونية على غزة

غيتا ليست مجرد مشروع إداري مؤقت كما يُعرض، بل هي صيغة استعمارية جديدة تهدف إلى السيطرة على قطاع غزة المتمرد وإخضاعه دون احتلال إسرائيلي مباشر، مما يقلل من التكاليف العسكرية والسياسية والدبلوماسية والاقتصادية والأخلاقية للاحتلال.

هي تجسيد لما يسميه فوكو “إدارة الحياة تحت السيطرة” - أي ممارسة السيادة عبر آليات أمنية وإدارية وإنسانية تحافظ على البنية الاستعمارية في شكل “وصاية إنقاذية”.

بعد فشل إسرائيل في تحقيق “نصر نهائي” عبر خمسة حروب متتابعة مشبعة بالرموز الدينية والأسطورية: 2008–2009 (الرصاص المصبوب)، 2012 (عمود السحاب)، 2014 (الجرف الصامد)، 2021 (حارس الأسوار)، 2022 (بزوغ الفجر)، وآخرها 2023–2025 (السيوف الحديدية / الانبعاث القومي)، يسعى الغرب لتقديم “غيتا” كحل وسط استعماري:

• تنهي الحرب عسكريا، لكنها تُبقي السيطرة السياسية والاقتصادية والأمنية في يد نظام الحداثة الغربي الصهيوني المهيمن عبر إدارة دولية.

خلفية المفهوم في الفكر السياسي الغربي

يستند مشروع “غيتا” إلى منظور الوصاية الدولية الذي تأسس في عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى، حيث كانت القوى الاستعمارية تحكم الشعوب المستعمَرة تحت ذريعة “تهيئتها للحكم الذاتي”.

وقد تكرر هذا النموذج بعد عام 1945 في عدة حالات معروفة، مثل:

• كوسوفو (UNMIK)

• تيمور الشرقية (UNTAET)

• البوسنة والهرسك (OHR)

في كل هذه الحالات، كانت السلطة الانتقالية الدولية أداة لتكريس نفوذ القوى الغربية المنتصرة، لا لبناء استقلال حقيقي.

وبالتالي، “غيتا” ليست ابتكارا جديدا، بل استعادة لصيغة استعمارية محدثة - وصاية بغطاء إنساني.

السياق الإسرائيلي - الأمريكي

تدرك الولايات المتحدة وإسرائيل أن السيطرة على غزة بعد الحرب لن تكون ممكنة بالقوة العسكرية وحدها.

ومن خلال مشروع “غيتا”، يمكن تحويل الاحتلال إلى إدارة متعددة الجنسيات تضمن عدة أهداف استراتيجية:

1. إقصاء المقاومة وحركة حماس.

2. منع قيام سلطة وطنية مستقلة ذات سيادة.

3. إدماج غزة في “نظام إقليمي أمني” يخدم مصالح إسرائيل.

4. تسهيل مشاريع “إعادة الإعمار” المموَّلة خليجيًا والمربحة أمريكيًا وغربيًا.

بهذا المعنى، تصبح “غيتا” الخصخصة السياسية للاحتلال: احتلال يُدار عبر شركات الإغاثة والمنظمات والبنوك بدلًا من الاعتماد على الجيوش.

البنية العقلانية للمشروع

في جوهرها، تجسد “غيتا” ما تسميه مدرسة فرانكفورت العقل الأداتي - أي تحويل الإنسان إلى “وظيفة” ضمن منظومة إدارة تقنية.

في هذا الإطار، يُنظر إلى الفلسطيني:

• ليس ككائن سياسي يطالب بالتحرر،

• بل كـ” حالة إنسانية” تحتاج إلى إدارة ومساعدة.

وهكذا، يتحول الاحتلال من قضية سياسية وأخلاقية إلى مشكلة تقنية قابلة للإدارة، ويختزل الصراع من سؤال “الحرية والسيادة” إلى سؤال “الإغاثة والإدارة”.

البعد الرمزي - الأسطوري للمشروع

من منظور ميثولوجي/أسطوري، تمثل “غيتا” عودة الوصي إلى الأرض المقدسة.

يرى الغرب في غزة اليوم نقطة انكسار رمزية بين “حضارته” و”الآخر المتمرد”، ولذلك يسعى إلى “إعادة بناء غزة” ليس كمدينة فلسطينية، بل كرمز لانتصار “النظام الدولي” على “الفوضى المقاومة”. وبذلك، تتحول عمليات إعادة الإعمار إلى طقس تطهيري:

• تطهير الضمير الغربي من الإحراج الأخلاقي.

• تطهير سياسي من فشل إسرائيل.

ما الذي يخفيه مشروع غيتا؟

يكشف تحليل المشروع أن “غيتا” تعمل على:

1. إلغاء البعد السياسي للمأساة الفلسطينية من خلال حصرها في البعد الإنساني فقط.

2. إعادة هندسة الوعي الفلسطيني، وتحويله من فكر مقاوم إلى فكر “وظيفي–تعاوني”.

3. إنتاج نخب جديدة “منزوعة التاريخ والهوية الحضارية” لتشارك في إدارة غزة ضمن المشروع الدولي.

4. إعادة تدوير الاحتلال في شكل جديد، بحيث يبقى الفلسطيني تحت السيطرة، لكن باسم “الشرعية الدولية”.

البعد الفلسفي

• رأى فانون أن أخطر أشكال الاستعمار هي تلك التي تُقنع المستعمَر بأنه يُعاد بناؤه لصالحه. و”غيتا” هي المثال الأبرز على ذلك: استعمار “إصلاحي” يعيد إنتاج التبعية بذريعة التنمية.

• وفق ماركس، حين تفشل الرأسمالية في السيطرة بالسوق، تنتقل إلى السيطرة عبر البنية السياسية. و” غيتا” تمثل إدارة رأسمالية دولية لمساحة جغرافية مقاومة، لضمان استمرار الهيمنة الاقتصادية بعد فشل السيطرة العسكرية.

نهاية السياسة وبداية الإدارة - أي موت الفعل التاريخي الفلسطيني كقوة تحررية.

“غيتا” ليست مشروعًا انتقاليا، بل مشروع لإعادة إنتاج الاحتلال بأدوات مدنية، والتجلي الإداري للعقل الاستعماري الجديد، الذي يسعى إلى:

• تحويل فلسطين من “قضية تحرر” إلى “ملف إدارة”.

• تحويل غزة من رمز مقاومة إلى مختبر إنساني.

الاقتصاد بوصفه قلب المشروع

في المشاريع الاستعمارية الحديثة، لم يعد الاقتصاد مجرد نتيجة للسيطرة، بل أصبح وسيلتها الرئيسية.

ويجسّد مشروع “غيتا” هذا التحول بوضوح، إذ يمثل مشروع إدارة اقتصادية قبل أن يكون إدارة سياسية.

الهدف الحقيقي:

• إعفاء إسرائيل من تحمل مسؤولية إعمار قطاع غزة.

• إعادة تشكيل الاقتصاد المحلي ضمن شبكة تبعية متكاملة مع الرأسمال العالمي، بحيث تصبح غزة “قابلة للحياة” وليست “قادرة على التحرر”.

مصادر التمويل وشبكات المصالح

1. التمويل الخليجي

• قطر، السعودية، والإمارات ستكون الممولين الرئيسيين باسم “إعادة الإعمار”.

• التمويل مشروط سياسيًا ضمن رؤية أمريكية-إسرائيلية للاستقرار.

• الأموال تُدار عبر صناديق دولية متعددة الأطراف، مثل البنك الدولي، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، والصندوق الائتماني للاتحاد الأوروبي (EU Trust Fund).

2. التمويل الغربي

• الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يشتركان في الإشراف المالي لضمان “الشفافية” و” منع الفساد”.

• عمليا، هذا يضمن التحكم الكامل بمسار الإعمار وفرض سياسات اقتصادية نيوليبرالية (خصخصة، تقليص دور الدولة، وفتح الأسواق).

3. الشركات والمنظمات المنفذة

• شركات هندسية وإنشائية غربية وخليجية، مثل مثل CCC (شركة اتحاد المقاولين)، Vinci (فرنسا)، وBechtel (الولايات المتحدة).

• المنظمات الإنسانية مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، ووكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (UNRWA).

تتحول هذه المنظمات إلى أذرع تنفيذية للمشروع السياسي عبر “برامج الإنعاش المبكر”، لتصبح الموارد المالية أداة لتطويع الاقتصاد الفلسطيني. ودمجه في النظام النيوليبرالي العالمي.

الاقتصاد السياسي للإعمار

تاريخيًا، لم يكن الإعمار في السياقات الاستعمارية مشروعًا أخلاقيًا، بل أداة لإعادة إنتاج السيطرة من خلال التحكم في البنية التحتية والاعتماد المالي.

في مشروع “غيتا”، يتجلى هذا التحكم عبر ثلاث آليات أساسية:

1. التحكم بالبنية التحتية

• شبكات الكهرباء والمياه والاتصالات مرتبطة بإسرائيل.

• الموانئ والمعابر تحت رقابة أمنية دولية-إسرائيلية.

• النتيجة: غزة “معاد بناؤها” لكنها مشلولة السيادة.

2. إعادة تشكيل السوق المحلي

• فرض نظام “اقتصاد السوق المفتوح” على غرار نموذج البنك الدولي في دول ما بعد الحرب.

• تشجيع الاستثمار الخاص على حساب القطاع العام.

• تهميش أي بنية إنتاجية وطنية (زراعة، صناعة، اكتفاء ذاتي) لصالح “اقتصاد خدماتي-إغاثي”.

3. توليد طبقة كمبرادورية جديدة

• نخبة اقتصادية - إدارية فلسطينية تعمل وسيطا بين السلطة الدولية والسوق المحلي، وتتغذى من “عقود الإعمار” والمنح، لتصبح وكيلًا للهيمنة. وهذا يعيد إنتاج ظاهرة “البرجوازية الوظيفية” التي وصفها فانون ومهدي عامل.

الدور الإسرائيلي - “الاحتلال الاقتصادي الذكي”

تظل إسرائيل الحاضر الغائب في جميع مفاصل مشروع “غيتا”، من خلال مجموعة من أدوات السيطرة غير المباشرة:

• التحكم في الحدود والمعابر، الطاقة، الموارد، والأمن والخرائط الجغرافية.

• تُتيح “غيتا” لإسرائيل الانسحاب من مسؤوليات الاحتلال المباشر دون فقدان السيطرة.

الدور الأمريكي - “الإدارة عبر السوق”

تعتبر الولايات المتحدة مشروع “غيتا” أداة أساسية لتنظيم مرحلة ما بعد الحرب في غزة، بما يضمن تحقيق أهداف استراتيجية:

• إخراج المقاومة وحماس من المعادلة.

• تجنّب انهيار إنساني شامل.

• بناء نموذج “غزة الجديدة” كمختبر للسلام الاقتصادي الإقليمي.

الأدوار العربية - بين الوصاية والمشاركة

• مصر: دور أمني على الحدود، المعابر تحت إشراف رمزي.

• الأردن: مشاركة محتملة في المكون الإداري بشكل رمزي.

• دول الخليج: تمويل المشروع بدون سيطرة إدارية، خاضعة للرؤية الأمريكية - الإسرائيلية.

النتيجة العملية: العرب يقدمون التمويل، الغرب يقرر السياسات، وإسرائيل تتحكم بالمناطق الحيوية.

البنية الإيديولوجية للاقتصاد الاستعماري

يقوم اقتصاد “غيتا” على تحويل السيطرة السياسية والعسكرية إلى واجهة تنموية رمزية مع رسالة مزدوجة:

• للفلسطينيين: “سنعيد إعمار بيوتكم، لكن لا تتكلموا عن التحرر.”

• للعالم: “نساعد غزة إنسانيًا، لا نكرّس الاحتلال.”

بذلك يتحول الإعمار إلى لغة تبرير أخلاقي تعمل على غسيل أبعاد الجريمة، وتحوّل الدمار إلى فرصة استثمارية. وفق ديفيد هارفي، هذا هو شكل العولمة الاستيطانية: “الرأسمالية لا تعمّر الدمار، بل تدير الدمار كوسيلة للتراكم.”

البعد الثقافي

1. الهدف العام: إعادة تشكيل الوعي والذاكرة

لا تسعى “غيتا” فقط إلى إعادة بناء المباني، بل إلى إعادة بناء السرد والهوية الفلسطينية. الهدف الرمزي هو تحويل غزة من حاضنة ذاكرة مقاومة إلى حالة إنسانية مُدارة، حيث تتحول السيادة التاريخية إلى ملفات إنسانية، والحقوق إلى بروتوكولات:

• تشتيت البوصلة التاريخية: إضعاف الروابط بين السكان وقصص النضال الطويلة.

• إنشاء سرد بديل: تقديم “الإعمار” كقصة مركزية، مع وضع الاستعمار/الوصاية في ثوب الراعي الرحيم.

2. اللغة والخطاب: السيطرة عبر المفاهيم

• تحويل مصطلحات المقاومة إلى مصطلحات فنية أو إدارية، مثل: “مقاتل” → “عنصر معطل للسلام”، “نكبة” → “أزمة إنسانية”.

• سيطرة خطاب إدارة الأزمات (vulnerability / هشاشة، stabilization / استقرار، resilience / مرونة) على الخطاب السياسي التقليدي (حرية، حق، احتلال).

• حذف أو تهميش المصطلحات الوطنية من المناهج واستبدالها بمفاهيم “الإدماج” و” التعايش”.

3. التعليم: المختبر الأهم لإعادة التشكيل

• تطوير مناهج تركز على الجوانب الإنسانية والتنموية وتهمّش التاريخ الوطني المقاوم.

• إشراف منظمات دولية على تدريب المعلمين لتعزيز الحياد والموضوعية على حساب خطاب المقاومة.

• مشاريع تبادل ثقافي وتدريبات مهنية توجه الشباب نحو سوق العمل الدولي بدل النشاط الوطني أو السياسي.

النتيجة المتوقعة: أجيال أقل ارتباطًا بالهوية الحضارية والذاكرة الجماعية للمقاومة وأكثر تقبّلًا لدولة إدارية دولية.

4. الفضاء العام والرموز

• إعادة تشكيل الفضاء العام: نصب تذكارية تمجّد “النهضة” و” المساعدة الدولية” وتقليل رموز المقاومة.

• إعادة تسمية الشوارع، تمويل متاحف تعرض المعاناة كقصة إنسانية منفصلة عن أسبابها السياسية.

• حظر أو تقييد الفعاليات السياسية بحجة الأمن، وتشجيع الفعاليات الثقافية التطويرية كنموذج “انتقال ناجح”.

5. الفن والإعلام: من منكر إلى موجّه

• مشاريع فنية تبرز قصصًا فردية إنسانية دون التركيز على البعد الجماعي أو السياسي.

• شبكات إعلامية محلية ممولة دوليًا تعزز سرديات “النجاحات التقنية”

 و” شهادات الناجين”.

• منح جوائز وإقامات للفنانين الذين يتبنون نبرة “إعمارية” أو “إنسانية”.

6. الذاكرة الجماعية والمنصات الرقمية

• مراكز أرشيف دولية تتحكم بما يُنشر ومتى.

• رقمنة المواد ضمن سياق “أرشيف إنساني” بدل “سجل مقاومة”.

• خوارزميات ومنصات ممولة خارجيًا تروّج لسرديات محددة وتقلّل انتشار السرديات الوطنية.

7. النخب الثقافية والتعليمية: إنتاج عمّال إدارة الذاكرة

• منح دراسية بالخارج لتخريج كوادر تعمل في الهيئات الدولية.

• برامج تأهيل قيادات محلية تمنح امتيازات مالية ومهنية لمن يتعاون مع المشروع.

• تكريس شبكة من المؤسسات الثقافية المحلية والدولية لنشر السرد المعتمد.

النتيجة: النخب الجديدة تصبح وسيطًا بين السكان والوصاية الدولية، أو ما يُعرف بـ” البرجوازية الوسيطة”.

التحرر أو إعادة الإعمار؟

مشروع غيتا يضع الفلسطينيين أمام مفارقة مصيرية:

• إما قبول “إعادة الإعمار” بشروط الوصاية الدولية،

• أو التمسك بالتحرر الكامل، ليُتهم بـ ” تعطيل السلام”.

وبذلك، تتحول المقاومة إلى مشكلة تنموية، ويُختزل الوعي الوطني في برامج تمكين ومشاريع صغيرة، بينما يُدفن البعد التاريخي في بيروقراطية المنح والموازنات.

“غيتا” ليست سلطة انتقالية، بل نظام اقتصادي - سياسي لإعادة إنتاج السيطرة الاستعمارية عبر أدوات السوق، الإغاثة، والمشروعية الدولية. إنها النسخة النيوليبرالية للاحتلال:

• احتلال بلا دبابات،

• وصاية بلا علم أجنبي،

• إدارة بلا سيادة،

• إعمار بلا حرية.

ممكنات ومستلزمات مواجهة المشروع

لقد كشف هذا الجزء الأول عن أبعاد مشروع “غيتا” المتعددة، حيث تتحول غزة من أرض مقاومة إلى مختبر لإعادة إنتاج السيطرة السياسية والاقتصادية والثقافية تحت غطاء إنساني وتنموي. لكن المعرفة وحدها ليست كافية، فالفهم العميق للآليات والهيكلة الدولية لمواجهة المشروع هو الخطوة الأولى نحو مقاومة فعّالة.

الفلسطينيون، والعرب، وكل من يؤمن بالحرية والعدالة، مفكرون وباحثون ومثقفون مطالبون بتحويل هذا الفهم إلى خطوات عملية.

في الجزء الثاني، الممكنات والمستلزمات العملية لمواجهة المشروع، يتوجب أن ننتقل من تحليل الأبعاد السياسية والاقتصادية والثقافية لنحوّل الفهم إلى أدوات فعلية تحمي الهوية الفلسطينية وتعيد السيادة، وتثبت أن غزة ليست مجرد ورقة في مخطط دولي، بل قلب مقاومة حيّ ينبض بالعزيمة والتحدي

 

مشاركة: