الرئيسية » هاني المصري »   30 أيار 2009

| | |
مؤتمر اليسار: الوحدة قبل فوات الأوان
هاني المصري

 

انتهى مؤتمر "تجارب تفعيل وتوحيد اليسار في فلسطين والعالم" وأصبحنا نفهم، بعد عقده بشكل أكبر لماذا لم يتوحد اليسار الفلسطيني حتى الآن، ولكن اليسار بعد المؤتمر بقي مبعثرا، ويمكن أن يبقى كذلك إذا لم يتم استخلاص الدروس والعبر والعمل على أساسها.

فرغم الادعاء شبه الإجماعي بأن كافة الشروط الموضوعية والذاتية متوفرة من أجل وحدة اليسار، إلا أنه لم يتوحد ويزداد تراجعاً وتشرذماً. فأين كان اليسار الفلسطيني في السابق، وأين أصبح الآن؟ فالفصائل والأحزاب اليسارية كانت تشكل القطب الثاني في المعادلة الفلسطينية ووزنها كان أضعاف أضعاف وزنها الحالي. وهنا لا يجب إلقاء اللوم والمسؤولية عن ذلك على الآخرين، على انهيار الاتحاد السوفييتي أو على فقدان الدعم العربي والدولي والإسلامي الذي تحظى به "فتح" و"حماس"، على أهمية ذلك. فهناك مسؤولية كبرى على اليسار ويجب أن يجرؤ على تحملها، إذا أراد أن ينقذ نفسه ويلعب الدور التاريخي المأمول منه.

لقد صعد "الإسلام السياسي" وأخذ ينافس بشدة على قيادة الحركة السياسية الفلسطينية لدرجة حصوله على أغلبية المقاعد في انتخابات المجلس التشريعي الأخيرة، بينما كانت حصة كافة فصائل وأحزاب اليسار متواضعة جدا، فضلا عن أنها ضائعة، حيث لم يكن هناك، موقف ولا أداء فاعل موحد، يجعل لليسار قيمة وتأثيراً أكبر من المقاعد التي حصل عليها، رغم أنه يطرح موقفا أكثر تقدماً وتوازناً، فلماذا يعاني من هذا الضعف، وهو معرض للانهيار والاندثار إذا استمر على هذا الحال.

هناك أسباب وعوامل كثيرة ساهمت ــ وبعضها لا يزال يساهم ــ في بعثرة الفصائل وأحزاب اليسار، منها ما هو تاريخي يتعلق بخصائص النشأة والانشقاقات، ومنها ما هو أيديولوجي وسياسي تنظيمي، ومنها ما يتعلق بالتكلس ومقاومة التغيير والتجديد والإصلاح وعدم الإقدام على مراجعة عميقة وشاملة رغم المتغيرات العاصفة التي شهدتها العقود الماضية من انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومته الاشتراكية، الى سقوط التضامن العربي، الى اتفاق اوسلو وما أدى إليه من فصل الداخل عن الخارج أولاً ثم قيام سلطة فلسطينية مقيدة تحت الاحتلال، أدت هي وعوامل أخرى عديدة الى وصولنا الى ما نحن فيه من انقسام سياسي وجغرافي مدمر بين الضفة الغربية وقطاع غزة، يهدد استمراره بضياع القضية الفلسطينية برمتها.

لقد دخل العالم عصر العولمة، حيث سيطرت قوة عظمى واحدة على العالم، وشهدنا ثورة الاتصالات والمعلومات والفضائيات، وأصبح العالم قرية صغيرة، وتمسكت الفصائل والأحزاب اليسارية، برؤيتها وسياستها وممارساتها، التي تنطلق من أن الأحداث جاءت بالمحصلة لتؤكد وجهة نظرها، مع إجراء بعض النقد الذاتي لمسائل ثانوية لا تغير من الادعاء بأن وجهة النظر التي يحملها اليسار مجتمعا أو كل فصيل على حدة، صحيحة.

إذا توفرت إرادة وحدوية قوية يمكن التغلب على كافة المشكلات والخلافات التي تحول دون وحدة اليسار. فما يجمع قوى وأحزاب وفعاليات اليسار أكثر مما يفرقها بكثير، وأكثر ما يجمع "فتح"، وأكثر ما يجمع "حماس".

فالمطلع الآن على رؤى وبرامج الأحزاب والفصائل اليسارية، يجد أن الخلافات القائمة بينها، ليست خلافات جذرية وحاسمة، ولا خلافات بين "الجبهة الشعبية" و"الجبهة الديمقراطية" و"حزب الشعب" وغيرهم من الفعاليات والقوى التي يمكن إدراجها ضمن مظلة اليسار، بل إن الآراء والاتجاهات والتيارات الموجودة في الجبهة الشعبية نجد شبيهاً لها في حزب الشعب وفي الجبهة الديمقراطية. فالخصائص المميزة لكل فصيل على حدة تراجعت كثيرا.

فلم تعد الجبهة الشعبية تقود المعارضة الفلسطينية، مثلما كانت أيام جبهة الرفض، وزمن مقاطعات اللجنة التنفيذية فالآن جميع الفصائل تشارك في المنظمة والسلطة، وتوجه انتقادات محدودة وراضية بدورها المتواضع.

كما لم تعد الجبهة الديمقراطية كما كانت، مبادرة وفعالة في إقرار سياسة واقعية، طرحت على مدى واقعيتها أكثر من علامة سؤال، ولم يعد حزب الشعب مثلما كان، حيث يبدو حاليا في بعض المواقف والحالات أكثر راديكالية من بقية قوى وأحزاب اليسار. فالأمين العام لحزب الشعب دعا الى الاستعداد للإعلان عن قيام دولة فلسطينية من جانب واحد، ورفض أو تعليق الالتزامات الفلسطينية في الاتفاقيات الفلسطينية ــ الإسرائيلية. كما أن المواقف عند فصائل اليسار، مثلها مثل غيرها تتأثر بديكتاتورية الجغرافيا. فالأوضاع في سورية تؤثر، كما تؤثر الأوضاع في غزة والضفة على مواقف الأشخاص، وإن بحدود متفاوتة بين شخص وآخر.

وحتى أوضح ما أقصده، أقول إن الموقف من السلطة والحكومات التي تشكلها، ليس موحدا بين فصائل وأحزاب اليسار، حيث تشارك الجبهة الديمقراطية في الحكومة الحالية، بينما تعارضها الجبهة الشعبية وحزب الشعب، رغم أن عضوا من الحزب شارك في الحكومة بصفة فردية.

كما أن داخل كل فصيل هناك آراء تدعو الى المشاركة في الحكومة وأخرى تدعو الى المعارضة، وكذلك الحال تتباين الآراء حول المنظمة والمفاوضات والمقاومة والقضايا الاجتماعية والاقتصادية والديمقراطية وحول كيفية توحيد اليسار أو عدم توحيده.

فهناك أشخاص داخل "الشعبية" منسجمون مع أشخاص في "الديمقراطية" أو "حزب الشعب" أكثر مما هم منسجمون مع رفاقهم. والعكس أيضا صحيح. إن هذا الأمر يشكل ثغرة كبيرة وخطيرة، حيث تدل على تراجع كبير فيما يميز كل فصيل على حدة، كما يؤشر الى أن المصالح الشخصية والفئوية والمكاسب من السلطة والمنظمات غير الحكومية، أصبحت هي التي تجمع الفصائل والأحزاب أكثر من أي شيء آخر.

فمسألة الرؤى والبرامج تتراجع أهميتها، بحيث فقد اليسار جزءا مهما من روحه وشجاعته واستقلاله وتقدميته، وأصبح دينه الدفاع عن القديم وابقاءه على قدمه، فعلى سبيل المثال لا الحصر سأقدم نموذجا يتعلق بالموقف من الحوار. فقد تحول الحوار الوطني الشامل الى حوار ثنائي، ويتم منذ أشهر، مرة وراء مرة، تأجيل دعوة الفصائل الأخرى والشخصيات الوطنية المستقلة للمشاركة بانتظار حدوث تقدم في الحوار الثنائي. وهذا يحول دور الآخرين الى كومبارس، حيث مطلوب منهم المباركة بدلا من المشاركة، وهذا جعل دورهم أقرب الى شاهد الزور.

رغم كل ذلك تكتفي الفصائل والأحزاب اليسارية وغيرها، بالصراخ ورفض الحوار الثنائي، مع أن وفودها قد جهزت شنط السفر بانتظار الاستدعاء. هناك إمكانية لموقف آخر يقوم فيه كل من يطمح للعب دور تاريخي بتعليق واشتراط مشاركته في الحوار باحترام دوره ودور الآخرين الذين من حقهم المشاركة قبل وخلال وبعد حدوث التقدم بالحوار الثنائي.

وأخيرا: أنا ترشحت في الانتخابات التشريعية الأخيرة، ورغم أنني عقدت أكبر عدد من الندوات التي شارك فيها أكبر عدد من الحضور بالمقارنة بالمرشحين الآخرين، ورغم أن حملتي الانتخابية نظمت مهرجانا شارك به الآلاف، ووقع أكثر من خمسة آلاف شخص على عريضة تؤيد ترشيحي مع أن المطلوب 500 توقيع فقط، ورغم أن معظم الاستطلاعات كانت تفيد بوجود فرصة كبيرة لي بالنجاح، إلا أنني لم أنجح وسقطت سقوطاً مدوياً. طبعاً هذا له أسباب كثيرة لا داعي للخوض بها هنا، منها أن هناك فرقاً كبيراً بين الرأي العام والناخب، فالناخب يتدخل بتصويته عوامل كثيرة عشائرية وعائلية ومصلحية وفصائلية وجهوية وسياسية وفكرية ودينية واجتماعية.

إن السبب الرئيس لسقوطي وسقوط المرشحين المستقلين والمنتمين للأحزاب والفصائل الأخرى، باستثناء "فتح" و"حماس"، سمعته ــ ولا أزال ــ أسمعه من نساء ورجال عاديين لا أعرفهم ألقاهم في الشارع أو على الجسر أو في محل بقال أو مؤتمر، أبرزهم سيدة كبيرة قالت لي كلمات لا تزال ترن في أذني: والله يا ابني إنك من أفضل من يستحق أن يكون عضوا في البرلمان، وكما ألاحظ ــ والكلام لا يزال لها ــ أن كل الناس تحبك، ولكن ماذا تستطيع أنت أن تفعل وحدك إذا نجحت وسط هذا الخراب العميم الذي نعيش فيه وفي وجه الاستقطاب الحاد بين "فتح" و"حماس".

إن الناخب يمكن أن يعطي صوته لطرف قوي أو يمكن أن يكون قويا ومؤثرا حتى يستطيع أن يساهم في تغيير وضعه البائس وطنيا واقتصاديا.. الخ بأسرع وقت ممكن.

أنا مقتنع قناعة عميقة أن هذا الرأي الحكيم الذي رددته امرأة عادية غير مسيسة ينطبق على اليسار بفصائله المختلفة أيضا. فالناخب كان يختار فتح أو وحماس أو يبقى في البيت، والقليل من الأصوات منحت لليسار أو غيره لأنه مفرقا لا يستطيع أن يفعل شيئا مؤثرا قادرا على إحداث تغيير ملموس.

تأسيساً على ما تقدم، اعتقد أن قوى اليسار أمام امتحان، قد يكون الأخير فإنها إذا لم تتوحد أولاً ثم تبدأ بعد الوحدة بالحوار حول بلورة الاتفاق على الرؤى والبرامج، فإنها ستذهب الى الانتخابات مبعثرة.

وإذا كانت نسبة الحسم مرتفعة، فإن هذا سيؤدي الى عدد مقاعد أقل يحصل عليها اليسار من التي حصل عليها سابقاً، هذا طبعاً إذا جرت الانتخابات في موعدها.

إن الوحدة حتى تقوم على أسس صلبة يجب أن تكون وطنية وديمقراطية وواقعية (وليست انهزامية ولا متطرفة)، وتحفظ التعددية والتنوع والمنافسة والابداع داخل الجسم الموحد.

ما يدفعني الى تقديم هذا الاقتراح، ما سبق أن اوضحته من أن الخلافات بين الفصائل هي نفسها موجودة داخل الفصيل الواحد.

يبقى أن نجاح الوحدة التي من المفترض أن تكون فورية، يجب أن يسير بالتوازي معه مراجعة تهدف لبلورة استراتيجية فلسطينية قادرة على تحقيق الأهداف الوطنية. فالاستراتيجية الصحيحة وحدها قادرة على توحيد الشعب، وليس الفصائل فقط، من أجل تجسيد الحرية والعودة والاستقلال.

 

مشاركة: