الرئيسية » مقالات » فيحاء عبد الهادي »   27 نيسان 2022

| | |
عائدون إلى حيفا: عريفة أسعد الحواشين وسلاح الذاكرة
فيحاء عبد الهادي

تستقرّ حيفا في قلوب وعقول أبنائها، في الوطن والشتات؛ عصية على النسيان،
يحفظ أبناؤها تاريخ مدينتهم، ويحفظون أحياءها شبراً شبراً، وحياً حياً: وادي النسناس، وحيّ عباس، والحليصا، والكبابير، ووادي الجمال، ومحطة الكرمل، ووادي الصليب.
حيفا التي تميّزت قبل عام 1948 بمرافقها الاقتصادية الثلاثة: خط سكة الحديد، وميناء حيفا، والمنطقة الصناعية، الأمر الذي وفّر فرص عمل لا حصر لها للفلسطينيين والعرب.
وهي التي أنشأت الروابط والنوادي والجمعيات السياسية والاجتماعية والرياضية والأدبية، وأصبحت منارة للانفتاح والتعددية والحضارة.
حيفا التي انتعشت فيها الصحافة، منذ أوائل القرن الماضي، وأصدرت 35 صحيفة، يومية، وأسبوعية وشهرية وفصلية؛ «الكرمل»، و»النفير»، و»النفائس العصرية»، و»المحبة»، و»الإقدام»، و»الزهور»، و»العصا لمن عصا»، و»الصاعقة»، و»آخر ساعة»، وغيرها.
حيفا التي كانت وما زالت مركزاً ثقافياً واجتماعياً متميزاً، والتي قدّمت على مسارحها منذ الثلاثينيات عروضاً مسرحية وأفلاماً عربية، واستضافت أشهر الفنانين والفنانات العرب؛ أم كلثوم، وأسمهان، ويوسف وهبي، وفريد الأطرش، وليلى مراد، وصباح.
هي حيفا التي تعرّضت لتطهير عرقي في الحادي والعشرين من نيسان العام 1948، وهي التي تقاوم منذ ذلك التاريخ الأسود محاولات طمس هويتها وهدم إرثها المعماري والحضاري، وأحد أهم أسلحتها ذاكرة أبنائها الحيّة.
*****
«أنا عريفة أسعد الحواشين، من المنسي – جنوب شرقي حيفا، كنا مبسوطين ومتماسكين، (لَحدّ ما طلّعونا يوم 12 نيسان 1948). كانوا أهل البلد يشتغلوا بالزراعة، وبالتجارة.
انولدت بالمنسي، وأبوي كان يشتغل في حيفا، كل أسبوع يروِّح من حيفا ع المنسي، وبعدين يرجع على حيفا، فيه 30 كيلو. كنا فلّاحين، كانوا البنات كلهم يحُطّوا ع راسهم، ونلبس طويل بالبلاد، بس في حيفا بيلبسوا قصير، وفيه سينمات ومسرح. أبوي جاب 7 بنات، وكان مقتنع فيهم، كان كل ما تيجي بنت ينبسط، ويجيب لأمي هدية، ما كان ينكِّد عليها.
فيه مدرسة اولاد بالمنسي، وإحنا البنات حطّونا مع الذكور، أبوي كان متفتح شويّ، كان بالمدرسة حوالي 10 بنات، أنا درست بيجي سنتين مع الولاد، بعدين إحتجّوا أهل البلد إنه ما بدنا اختلاط.
كان عمري يمكن 10 سنوات طلّعني أبوي، ظلت خواتي الأزغر. لَحدّ الآن مش ناسيهم ولاد صفي، فيه: «إبراهيم الحج عبد الله»، و»جهاد السرحان»، و»جهاد الشيخ شعبان».
عاودت كمَّلت بمدرسة الخطيب، عاملينها غرفة في الجامع، صرت بَقرا وباكتُب، والله درست أنا يمكن للصف الخامس، بعدين لَحد هين وقَّفنا.
لمّا انسحبوا الإنجليز، أجوا اليهود بَدالهُم، صاروا يحكوا المخاتير: بدنا نسلِّح أهل القرية، كل حمولة تسلِّح إللي إلها، ما فيه مصاري؛ العيلة كلها يشتركوا ببارودة. باعوا دهبهم النسوان ما ظلّ عندهن إشي!
أهل البلد خططوا يدافعوا، بس اليهود أخدوا المناطق العالية، تمركزوا ع الجبال، صاروا يطخّوا، طيّارات يحومن، وطخّ بالبارود، استشهدوا كثير من المنسي، بتذكّر «حسن يعقوب»، و»علي يعقوب»، إخوان استشهدوا وخواتهم الاتنتين أمينة وفدوى اتصاوبوا، وكتير، كل أهل المنسي هاجروا، ما بقي حدا.
قرَّرنا نطلع، أجا قائد جيش الإنقاذ «فوزي قوقجي»، حَطّ كل قوته بجبل كاشف على المستعمرة، حكوا لأهل البلد: إنتوا ترفّعوا، يعني إختفوا بالجبال بالوديان، لأنه هَسّه اليهود بدها تضرب، بس شو صار؟ صارت خيانة؟ الله يعلم! جاء الأمر بالانسحاب بعد ما وصلوا المستعمرات، واحد إجا عند أبوي حكى: والله  فُتنا على المستعمرة نقصّ الأسلاك، وأجانا أمر بالانسحاب. وبعدين الناس خلص قطعت الأمل.
رحنا ع اللجون، ما قدرنا نحمل إشي من البيوت، حكوا لنا بنرجع، يوم يومين. طلعنا مشي، اللي سايق غنم، اللي سايق البقر، اللي ع الخيل، أيامها ما كان فيه سيّارة، يا دوب المنسي فيها يمكن 4-5 سيّارات تركّات. أهل اللجون كمان صاروا يطلعوا، إحنا نروح عندهم وهُمّه يمشوا، ظلينا نمشي لعند ما بدت زلفه (طولكرم)، ظلينا فيها. ما حدا كان متعاطف معنا، والله العظيم الإهانة اللي أكلناها ما حدا أكلها، خاصة تبعون الضفة الغربية، كانوا يحكوا لنا: إنتوا لاجئين وبعتوا أراضيكم.
رُحنا بعدين وين؟ سكنّا يعبد، ومن يعبد ع جبع ومن جبع رجعنا لجنين. أبوي استقر بجنين، وفتح محل بضاعة. طلعت عمري 14، وبعد سنة ونص تجوّزت، دار أهلي ملّاكين، وكمان دار حماي، يوم تجوَّزت مهري 200 ليرة، شو أبوي جابلي بيهم؟ 6 دهبات ليرات، واللوزة دهب، وخاتمين دهب، وجوز حلق، وإسوارتين، وإسوارة نصاص عملة من النوع الرشادي، وجاب لي أواعي طبعاً.
تزوَّجت آخر 49 بشهر 9، وخلّفت بالخمسين، وبعدها استقرّينا في جنين. اشترينا أرض، وبنينا، جوزي صار يشتغل أستاز بالوكالة، كان يدرِّس عربي، وإنجليزي، وتاريخ، ودين.
عشنا لـ 67. كان جوزي ترك الوكالة، واشتغل بالسعودية، ما ظل حدا لا مخيم ولا جنين ولا القرى، كله طلع على الجبال، في العراء بين الشجر، طالعين خايفين اليهود تضرب، سلافي كانوا مع الثورة.
مشينا إحنا وولاد سلافي كلهم، وطلعنا طلعة جبال جنين، ونزلنا وين؟ على قباطية، من قباطية نمشي بالليل لَجبع، قتلنا البرد، وصلنا قباطية بهالليل لقينا هالميرامية بجبال قباطية مليانة، وصرنا نأكِّل منها الولاد، ردّينا مَشينا لَجبع، فيه مغارة كبيرة فتنا بيها. الصبح أذاعوا الخبر إنه جنين استحلّت، كل واحد يرجع على بيته. رجعنا لجنين مشي.
رجع جوزي (كان خايف علينا) وقال: بِدّي أخدكم على إربد، سحبنا حالنا، حَمَّلنا بِترَكّ هالأغراض اللي معنا، ما كانت الجسور كلها مهدودة، البِكَب نِزل بقلب المَيّ، (بعد عذاب كبير وصلنا) سَكّنّا، وهو سافر ع السعودية، تأجَّر لي هالبيت وحَطّ هالولاد في المدارس. اندمجنا وانبسطنا في إربد.
حمد لله عندي تسع ولاد وثلاث بنات، منهم عزمي دكتور علم نفس وعلم اجتماع، راح ع المقاومة، عندي دكتور صيدلي، وطبيب، ودكتور هندسة صناعية، ومحامي، ومهندس اتصالات، وأستاذ مدرسة، والبنات درسوا علم تربية وعلم طفل، اتجوّزن وعندهن اولاد.
إحنا من اولادنا زغار نحكي لهُم عن المنسي، وعن الذكريات، وعن بلادنا كانت حلوة وفيها كل شي، وإحنا مالناش إشي هون».
faihaab@gmail.com
www.faihaab.com

نقلًا عن جريدة "الأيام"

 
 
 
 
 
 
مشاركة: