الرئيسية » مقالات » فيحاء عبد الهادي »   30 أيلول 2025

| | |
قالت شهرزاد: رواية د. هديل بارود من مخيم النصيرات
فيحاء عبد الهادي

 

ولما كان اليوم السابع والتسعون بعد المائتين، للإبادة الجماعيّة، في قطاع غزة، ومع فجر يوم الاثنين، التاسع والعشرين من تموز/يوليو، من العام ألفين وأربع وعشرين ميلاديّ، والثالث والأربعين من محرّم، من العام ألف وأربعمائة وستة وأربعين هجريّ؛ وبعد أن ارتكب جيش الاحتلال الإسرائيليّ ثلاث مجازر جديدة في القطاع، كان نتيجتها وصول تسعة وثلاثين من الشهداء والشهيدات، وثلاث وتسعين من الإصابات، للمستشفيات، منها قتل الصحفي "محمد أبو دقة"، خلال أداء مهمته الصحفيّة، في خان يونس الأبيّة، وتدمير مسجد الشيخ رضوان في بلدة خزاعة بالمدفعيّة، وبواسطة نيران طائرات المسيّرة الإسرائيليّة، حيث نسف منزل لعائلة دلول، في محيط مسجد بلال في حيّ الزيتون، وآخر في محيط شارع بغداد في حيّ الشجاعية، ونسفت منازل في حي الشيخ ناصر؛ حدّثتني الزهراء حافظ قالت حدّثتني هديل محمد بارود- الطبيبة التي هجّرت عائلتها العام 1948 من بيت دراس/شرقي غزة، وأقامت في مخيم النصيرات/وسط قطاع غزة - عن رحلة نزوحها القاسية إلى رفح، إثر تعرّض المخيم إلى هجوم وحشيّ غير مسبوق، بواسطة الدبابات والطائرات الحربيّة، والمروحيّة، وطائرات الكواد كابتر الإسرائيليّة، بعد ثلاثة أشهر من الإبادة الجماعيّة؛ استهدف قتل المدنيين، وتدمير المنازل، والمستشفيات، وكافة البنايات، وخلّف عشرات الشهداء والجرحى في الشوارع والأزقة والحارات، بالإضافة إلى الرعب الذي أصابها حين قصف بيت قريب من بيتها؛ تسبّب في هزّ البيت وتكسير الشبابيك، وتسبّب في طيرانها قرب نافذة البيت، وفي إغلاق باب شقة أخيها عليه من قوة الضربة وتأثيرها.

حدّثتني عن معاناتها النفسية كطبيبة، كانت تعمل قبل تهجيرها، في عيادة النصيرات - العيادة الصحية الأولية التابعة للأونروا -، وكيف واصلت عملها بعد شهر واحد من الإبادة، رغم انقطاع معظم أنواع الأدوية البسيطة، عن العيادة، مثل خافض الحرارة، ناهيك عن الأدوية التي تعالج الالتهابات: التهاب الكبد الوبائي، والالتهابات الجلدية، والنزلات المعوية، وأمراض الجهاز التنفسي، والجهاز الهضمي، والالتهابات البولية، بالإضافة إلى التطعيمات، والأدوية الضرورية للأمراض المزمنة مثل السكري والصرع؛ مما جعلها تكفر بالطبّ الذي درسته، لشعورها بالعجز تجاه مرضاها المتعبين، والمقهورين، وخاصة الأطفال منهم.

ووصفت معاناة السيدات الحوامل، والأذى النفسيّ والجسديّ الذي يتعرّضن له؛ بأنه مما لا يمكن وصفه أو تصوّر تفاصيله، ولا يمكن لبشر أن يتحمّله لقسوته، حيث حرمت النساء من متابعة حملها، ومن التقاط صورة سونار للاطمئنان على جنينها، وعن أية رعاية قبل وأثناء وبعد ولادتها.

لم تقرِّر هديل وعائلتها النزوح، أيها الجمهور "السعيد" ذو الرأي الرشيد، سوى بعد أن وصلها تهديد مباشر بقصف منزلها. تفرّقت العائلة بعدها، حتى لا يتمّ إبادتها وخروج أفرادها بأكملهم من السجل المدني. ولم يبق في البيت سوى الوالد، الذي رفض الخروج من البيت بشكل قاطع.

أحسّت الطبيبة بالقهر الشديد، وبكت بيتها بمرارة وحرقة، حين أحسّت أنها يمكن أن تغادره دون رجعة. وقبل أن تخطو خارج البيت قامت بتصوير غرفة نومها، وكل زاوية من بيتها، حتى تظلّ صورته أبدًا في ذاكرتها.

نزحت د. هديل إلى رفح مع والدتها، ومع أنها نزلت عند أقاربها، الذين يستضيفون أربع عائلات غيرها؛ إلاّ أنها اعتبرت أن تجربة النزوح هي أقسى التجارب التي عاشتها وخبرتها.   

تحدّثت عن مشاعر الخوف المميتة، التي عاشتها كل يوم، ودقيقة، ولحظة، وعن الضغط النفسيّ، وانعدام الخصوصية، التي قيّدت حركتها وحديثها وحياتها بأكملها، خاصة حين انقطعت في رفح المواصلات والكهرباء التي تعتمد عليها في شحن هاتفها وجهاز حاسوبها وكافة وسائل عيشها.

 روت عما تجابهه كفتاة في ظل النزوح، يا سادة يا كرام، حيث صعوبة وندرة الاستحمام، لانقطاع المياه، والصابون، ومواد النظافة الشخصية، وأهمها الفوط الصحية، خاصة أثناء الدورة الشهريّة، ناهيك عن كارثة انعدام المواد الغذائيّة، التي تسببت في تجويعها وأهل القطاع وفي هلاك العديد من العائلات الغزيّة.

وصفت أول مرّة أكلت فيه البيض مع عائلتها، بعد ثلاثة أشهر من انقطاعه، وتوفره بسعر دولار لكل بيضة، حين اشترت واحدة لكل فرد من عائلتها. وطبخت شكشوكة احتفلت بتناولها العائلة كلها.  

تحدثت عن تجربة حياة الخيمة المرعبة، حيث لا نوم في الليل أو النهار، ولا راحة في الصيف أو الشتاء، ولا ماء ولا طعام، ولا نظافة، ولا خصوصية، واعتبرت أن الاضطرار للسكن في الخيمة هو أبشع ما حدث ويحدث لأهل غزة زمن الإبادة.

لم تستطع د. هديل أن تبقى في بيتها لتندب حظها أيها الأفاضل. أحسّت بضرورة أن تقدّم ما تستطيع لتخفيف الألم عن بعض أبناء شعبها. ورغم الخطر واصلت عملها كطبيبة في نقطة طبية، كانت مفتوحة للنازحين، في جامعة الأقصى، في رفح - والنقطة الطبية، تكون عبارة عن خيمة، يدعم أكثرها منظمات غير حكومية، ويقدّم فيها الأطباء ما يستطيعون من مساعدات، لصعوبة الوصول إلى المستشفيات -، وتطوّعت بجانب عملها لمساعدة المرضى غير القادرين على العلاج، وذوي الأمراض المزمنة - خاصة وقد تضاعف سعر الأدوية ثلاث إلى أربع مرّات - بالإضافة إلى محاولة تقديم الدعم النفسي لهم، عبرمشاركتهم معاناتهم وحكاياتهم بتفاصيلها.

ما الذي حملته د. هديل في رحلة نزوحها؟ بالإضافة إلى الحقيبة الصغيرة التي تحتوي بعض ملابسها وأشيائها الضرورية، والتي جهّزتها أسوة بأهل القطاع، الذين كانوا يعدّون حقيبة تحمل ما خفّ حمله من أغراضهم إثر كل اعتداء.

حملت ما اعتبرته كنزها؛ قرصًا صلبًا عليه صورها، مع عائلتها وأصدقائها والأماكن التي زارتها، وبعض الهدايا العزيزة على قلبها، مثل خاتم ذهبي، وسلسلة ذهبية، وقميص، وحقيبة صغيرة تحتوي على رسائل خطية من زملائها وأصدقائها.. حملت ذكرياتها وجراحها وآلامها وآمالها وأحلامها وووووووووووو وووووووووووووووووووووووووووووووووووووأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام الجراح.

faihaab@gmail.com

www.faihaab.com

 

 

 

 

 

 

 

مشاركة: