مع اقتراب توقيع اتفاق المرحلة الأولى من وقف حرب الإبادة في قطاع غزة، لا تنتهي الحرب، بل تبدأ أخطر مراحلها. فالنار التي أُطفئت في الميدان لم تُطفأ بعد في الوعي، والركام الذي يغطي الأرض ما يزال يحجب ملامح المستقبل.
إنها لحظة فاصلة، يتقاطع فيها الدم مع المعنى، ويُختبر فيها الفلسطيني والعربي والإنسان في قدرته على تحويل الصمود الأسطوري إلى وعي تاريخي، وإلى فعل سياسي يوازي عظمة المقاومة وبطولة الحاضنة الشعبية التي احتضنتها في غزة ومخيمات الضفة.
لقد أعادت هذه الحرب تعريف مفاهيم البطولة،والإنسان، والعدالة، والمقاومة. ولأول مرة منذ ثمانية عقود، وقف العالم أمام صورة مكثفة لجوهر الصراع: شعبٌ أعزل يُذبح ولا ينكسر، ومحتلٌّ مأفون بعقدة التفوق والعنصرية يمتلك كل أدوات القتل ويفقد كل مبررٍ أخلاقي لوجوده.
في هذه المفارقة وُلدت مرحلة جديدة لا تشبه ما قبلها، تفرض على الفلسطينيين والعرب والإقليم، بل وعلى الإنسانية جمعاء، مراجعة الذات وقراءة التاريخ من جديد.
أولا: فلسطينيا – من الصمود إلى بناء الوعي الوطني الجديد
المرحلة القادمة ليست سياسية فحسب، بل هي مرحلة إعادة بناء الوعي الوطني الفلسطيني بعد عقود من التهميش والتشويه.
لقد أثبتت المقاومة أن الإرادة أقوى من الجغرافيا، وأن غزة المحاصرة استطاعت أن تحاصر الرواية الصهيونية، وأن تعيد للعالم معنى الكرامة.
لكنّ التحدي الأكبر الآن هو: هل يمكن تحويل هذا النصر المعنوي إلى مشروع وطني تحرري جامع؟
إن مهمة الفلسطينيين اليوم هي إعادة صياغة المشروع الوطني على قاعدة التحرر لا مهادنة العنصرية، وعلى أساس الحقوق الوطنية والتاريخية الثابتة غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني في الحياة والحرية والعودة وتقرير المصير، لا على “الواقعية السياسية”. فالحق ثابت قائم بذاته، وليس مشروطا بلحظة القوة، وهو ملك للأجيال، ولا يجوز لأي جيل التنازل عنه، أو لأي سياق ضاغط أن يعيد تعريفه.
لا بد من تجاوز الانقسام البنيوي الذي أضعف الجبهة الداخلية، ولا بد من إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية لتستعيد جدارتها وتكون ممثلاً شرعياً حقيقياً وحيداً للشعب الفلسطيني، لا إطاراً بيروقراطياً متآكلاً.
إن إعمار غزة يجب أن يكون إعماراً بكرامة وطنية، لا منحة مشروطة ولا بوابة للوصاية الخارجية، دولية أم عربية. ومن داخل هذه الرؤية، يمكن للفلسطيني أن ينتقل من موقع الضحية إلى موقع الفاعل، ومن حالة الدفاع إلى مشروع التحرير.
ثانيا: عربيا – بين امتحان الكرامة واستعادة الدور
لقد انكشفت الأنظمة العربية أمام شعوبها كما لم يحدث من قبل، واتسعت الفجوة بين الحاكم والمحكوم إلى درجة غير مسبوقة. ففي الوقت الذي كانت غزة تُباد، خرجت الملايين في الشوارع العربية تهتف لفلسطين، بينما التزم كثير من الحكومات صمتاً بارداً أو حياداً خادعاً.
لكنّ الشارع العربي استعاد نبضه التاريخي، واستيقظ الوجدان الجمعي من غفوته الطويلة. إن مهمة المرحلة عربياً هي الانتقال من التضامن العاطفي إلى تأسيس موقف سياسي مستقل، لا تابعٍ للهيمنة الأمريكيةوالغربية، ولا أسيرٍ لمعادلات التطبيع والارتهان الأمني.
وهي فرصة تاريخية نادرة للأنظمة العربية كي تنعتق من إرث الاستعمار الثقيل، وتبدأ مرحلة جديدة من البناء وتعزيز القدرة الذاتية في المجالات كافة، لتقوية المناعة الوطنية والمجتمعية. فالاحتماء بالشعوب والثقة بوعيها وقدرتها على الدفاع عن حقوقها ومصالحها هو الضمان الحقيقي للاستقرار الداخلي، والشرط الذي لا غنى عنه لحماية الأوطان ومواجهة الأخطار الخارجية.
فالقضية الفلسطينية ليست عبئاً على العرب، بل مرآة وجودهم ومعيار نهضتهم.
وإذا كان دم غزة قد أعاد توحيد الوجدان العربي، فعلى النخب الفكرية والسياسية أن تحوّله إلى مشروع نهضوي تحرري جديد، يستعيد مركزية فلسطين بوصفها مفتاحالحرية والكرامة والسيادة في المنطقة.
ثالثا: إسلاميا – نحو وعي حضاري يتجاوز الانقسام
أما في الفضاء الإسلامي، فقد كشفت الحرب على غزة أن القدس ما تزال قلب الأمة النابض، وأن روح التضامن الإسلامي قادرة على تجاوز الجغرافيا والطوائفوالمذاهب. لكنّ هذه الروح بحاجة إلى تحويلها من انفعال موسمي إلى قوة مؤسسية دائمة: سياسية، دبلوماسية، اقتصادية، إعلامية، ثقافية، وحقوقية.
ففلسطين لا تُستهدف لذاتها، وإنما لأنها خط الدفاع الأول عن عموم المنطقة وحضارتها الأصيلة الجامعة لتعدد الأعراق، والألوان، والأديان، والمذاهب. وقضية فلسطين ليست مسألة جغرافيا، وليست قضية وطنية أو قومية فحسب، بل وعي حضاري في مواجهة منظومة الاستعمار والعنصرية.
ومن مهام المرحلة القادمة أن تعود الأمة إلى دورها الطبيعي: حاضنة للتنوع، وللقيم التحررية الإنسانية،ومصدر إلهامٍ للشعوب المقهورة، لا مجرد كتلة تُدار من الخارج.
رابعا: دولياً – من التعاطف إلى التغيير
لقد أحدثت غزة تحولا غير مسبوق في الوعي الإنساني العالمي.
فما عجزت السياسة عن قوله، قالته صور الأطفال تحت الركام، وصمود الأمهات، وإصرار الناس على الحياة رغم الحصار والنار.
إن موجة التضامن الشعبي العالمي التي اكتسحت الجامعات والشوارع والمؤسسات الحقوقية ليست عابرة، بل هي بداية تشكّل وعيٍ كونيّ جديد يفضح الاستعمار والعنصرية بأشكالها الحديثة، ويعيد تعريف العدالة الدولية من منظور الشعوب لا من منطق القوة.هنا تتكشّف إنسانية جديدة تبحث عن معنى العدالة بعد أن سقطت أقنعتها الغربية.
من هنا، يصبح من واجب الفلسطينيين والعرب تأطير هذا الوعي وتوسيعه عبر تحالفات مدنية وشعبية عالمية قادرة على ممارسة الضغط السياسي والقانوني والإعلامي لإدانة الصهيونية كنظام فصل عنصري واستعماري، لا كحالة سياسية طبيعية.
على أعتاب التحول التاريخي
نقف اليوم على أعتاب تحولٍ تاريخي في الوعي الإنساني والسياسي. فما جرى في غزة لم يكن حرب إبادة عسكرية فحسب، بل امتحاناً للقيم الكبرى: الحرية، العدالة، والكرامة.
ولأول مرة منذ نكبة 1948، يتشكل وجدانٌ عالمي جديد يرى في فلسطين بوصلة الأخلاق في هذا العالم المختل.
لكنّ التاريخ لا يُكتب بالدم وحده، بل بالوعي الذي يصوغ معنى الدم.
ولذلك فإن المرحلة القادمة تتطلب من الفلسطينيين والعرب والمكوّنات الأصيلة في الإقليم أن يكونوا في السياسة بمستوى المقاومة في الميدان، وأن يدركوا أن التحرر لا يُستكمل إلا بتحرير الوعي من التبعية، والقرار من الخوف، والإنسان من الاغتراب.
لقد بدأ زمن جديد،
زمنٌ لا يُقاس بموازين القوة، بل بميزان المعنى.
غزة – التي صمدت أمام العالم كله – ليست مجرد جرحٍ مفتوح،
بل نقطة انطلاقٍ لنهضةٍ قادمة تحمل اسم فلسطين، وتعيد تصويب التاريخ الإنساني نحو عدالته الغائبة.