الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   08 تشرين الأول 2025

| | |
هل مشكلتنا في الفساد أم في النظام الذي يحتاج إليه ليستمر؟ قراءة في مقال غسان جابر – الفساد بين بلاد التنين وبلاد التنوين
غانية ملحيس

غسان جابر توليفة متميزة لمهندس، كما يعرف نفسه، يسكنه مثقف وسياسي، ورجل أعمال، ومقاوم وكاتب.
في مقاله “الفساد بين بلاد التنين وبلاد التنوين” في وكالة وطن 6/10/2025 يقدّم الكاتب نصّا ساخرا يخلط بين الأدب والسياسة ليكشف جوهر الفساد العربي بوصفه بنية ثقافية واقتصادية، لا مجرد انحراف إداري.
وقد سعت هذه القراءة إلى تجاوز الانبهار البلاغي، نحو تفكيك بنيته الفكرية، من خلال معالجة المقارنة غير المتكافئة بين الصين والعالم العربي، وربط الظاهرة بجذورها البنيوية في الاقتصاد الريعي، مع توضيح البعد الرمزي في التعميم اللغوي، واستعادة الأمل كفعل تحرري ثقافي. بذلك تتحوّل السخرية عند جابر إلى شكل من أشكال الوعي المقاوم، وليس مجرد نقد أخلاقي للنظام.

يمتلك غسان مقدرة لافتة في انتقاء الكلمات ذات الدلالات العميقة، فيطوّع اللغة والأدب الساخر لتناول قضايا سياسية ومجتمعية معقدة بسلاسة.
اختياره الموفق لعنوان مقاله “الفساد بين بلاد التنين وبلاد التنوين” يدل على موهبة فريدة لسياسي يقظ يسير بثبات على حد السكين.
يشدّ القارئ من العنوان ويدفعه للبحث عن المعنى في معجم اللغة قبل قراءة المقال.
فالتنين في الأسطورة الصينية يرمز إلى القوة والانضباط والسيطرة، وهو كائن عظيم منظم قادر على فرض النظام. ليس شريرا عند الصينيين، كما في الأساطير الغربية، بل كائن عاقل يجسد في الخطاب المعاصر هيبة الدولة ووحدتها، ويدل على الصين كقوة اقتصادية وسياسية صاعدة، ونموذج للدولة المنضبطة القوية التي تربط بين الفعل والمسؤولية.

وفي المقابل، فإن حرف الواو الذي أضيف ليتوسط كلمة “التنين” فحوّلها إلى “تنوين” قلب المعنى إلى النقيض. فالتنوين في اللغة العربية علامة صوتية، نون ساكنة زائدة تُلفظ ولا تُكتب نونًا، وتأتي في آخر الاسم النكرة للدلالة على التنكير. وحين يُقرن التنوين ببلاد، فإنه يرمز لكثرة الكلام وغياب الفاعلية.

في مقاله المبهر، يقارن غسان جابر الفساد في بلاد “التنين” و” بلاد التنوين” بخطاب نقدي ساخر، ويشتبك مع واحدة من أكثر الإشكاليات رسوخًا في البنية السياسية والاجتماعية العربية: الفساد بوصفه نمطا مؤسساتيا للوجود، وليس مجرّد انحراف إداري.
ومن خلال المقارنة الرمزية بين بلاد التنين (الصين) وبلاد التنوين (العالم العربي)، يسلّط الضوء على الفارق الجوهري بين ثقافة الانضباط الفعلي وثقافة الشعارات اللفظية، فيتحوّل المقال إلى مرآة مزدوجة تعكس صرامة النموذج الصيني مقابل رخاوة النظام العربي في مواجهة الفساد.
ويفكك ببراعة آليات التبرير السلطوي وإعادة تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، ويوظف الأدب الساخر لإنتاج نقد سياسي مموّه بالبلاغة الأدبية، مستثمرًا التوازي الصوتي بين “التنين” و“التنوين” لإنتاج مفارقة دلالية: من التنين، رمز الفعل والسلطة، إلى التنوين، رمز التكرار اللفظي والنهاية الصوتية بلا معنى.
بهذا التلاعب اللغوي، يُحوّل الصوت العربي ذاته إلى علامة على العطالة التاريخية، ويطوّع اللغة لإنتاج موقف فكري. فهو لا يصف فقط، بل يعيد ترتيب العلاقة بين اللغة والسلطة. واللغة هنا ليست وسيطا محايدا، بل أداة مقاومة.
ففي بلاد التنين، تُستخدم اللغة للحكم والانضباط: “الكاميرا ليست للزينة، والإصلاح نمط حياة”. أما في بلاد التنوين، فاللغة أداة تزيين وتبرير: “اللجان تتكاثر كالأرانب”، و“تقرير عن النزاهة يلقيه فاسد”.
يستخدم جابر المجاز الحيوي لتعرية خصوبة البيروقراطية العربية التي تلد أوراقًا بدل الأفعال. أما تعبير “الكاميرا ليست للزينة”، فهو نقل ساخر لفكرة الرقابة من مجرد أداة شكلية إلى رمز للجدية والمسؤولية.

يلتقط غسان بدقة رجل الأعمال حقيقة أن الفساد ليس خللا أخلاقيا أو انحرافاً إدارياً فحسب، بل نتاج لبنية إنتاج ريعية تربط الثروة بالسلطة وليس بالعمل. فوفقا لتقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2023، تحتل معظم الدول العربية مراتب منخفضة في مؤشر مدركات الفساد، ما يعكس انتشار الفساد المؤسسي وغياب فعالية آليات الرقابة.
وحين يقول إن “الإصلاح مشروع إعلامي” في بلاد التنوين وليس مشروع دولة، فإنه يختزل العلاقة بين الخطاب السياسي والأداء الواقعي في العالم العربي ويسلط الضوء على أن الفساد مقنّن في منظومة متكاملة، وآليات إعادة توزيع الثروة والامتيازات. فالطبقة الحاكمة، كما يقول ماركس، هي من تحدّد ما يعتبر “قانونيًا” أو “أخلاقيًا”. ويعيد جابر إنتاج هذه الفكرة في شكل ساخر، حين يُظهر أن اللجان والمؤتمرات ليست سوى بنية فوقية لإخفاء العلاقات المادية للفساد. فالفساد هنا ليس انحرافا عن القانون، بل الطريقة التي يعمل بها القانون نفسه في سياق سلطوي.
وبذلك يتقاطع السياسي غسان بعمق مع أطروحات فرانتز فانون في “معذبو الأرض”، حين تحدّث عن أن النخب الوطنية بعد الاستقلال تستنسخ لغة المستعمِر وآلياته بدل تفكيكها. فبلاد التنوين هي تجسيد لهذه النخبة: تتكلّم بلغة الإصلاح وتستعير مفاهيم النزاهة والشفافية لكنها تمارس الحكم ببنية القهر الاستعماري نفسها.

يختار غسان مفرداته بعناية، مثل “اللجان”، “التقارير”، “التوصيات”، كرموز لبيروقراطية استعمارية جديدة، حيث تُمارس السيطرة عبر اللغة ذاتها، أي عبر إنتاج الخطاب كبديل للفعل. وهذا يتناغم مع مقولة فانون عن “الاستقلال الشكلي” الذي يبقي الشعوب في حالة اغتراب سياسي وإداري، تبدو فيها الدولة الوطنية مجرد نسخة “منوّنة” من المستعمِر القديم.

ويرتبط المثقف غسان في مقاله بنظرية غرامشي حول “الهيمنة الثقافية”، حيث تُصبح السيطرة مقبولة لأن المجتمع نفسه يُعيد إنتاجها.
ففي بلاد التنوين، لا تُفرض السلطة بالعنف فقط، بل عبر تطبيع الفساد كقيمة اجتماعية: “الفساد ليس عيبًا، بل تخصص جامعي”، والنزاهة سذاجة وقلة حيلة. هنا ينتقل الفساد من كونه جريمة إلى نمط حياة مقبول ثقافيا، ما يعني أن مقاومته تحتاج إلى ثورة في الوعي الجمعي، وليس في القوانين فقط.
بهذا، يضع جابر يده على جوهر الهيمنة، حيث يُسهم المجتمع في استمرار النظام الذي يشتكي منه، لأن الوعي مشروط بالخطاب الذي ينتجه النظام ذاته.

يستخدم غسان الأديب السخرية ليس للتسلية، بل كأداة مقاومة رمزية، إذ يفضح العجز البنيوي عبر التهكم، فيما يمكن تسميته “بلاغة السخرية السياسية”، وهي طريقة لقول ما لا يُقال في المجتمعات المقموعة.
ويعبّر عن إحباطٍ جمعي عربي من خطاب “الإصلاح الإداري” الذي يتكرر منذ عقود دون نتائج. وفي خلفيته يمكن قراءة وعي فلسطيني خاص، فغسان جابر يعيش تجربة استعمارية مباشرة، لكنه يرى الفساد الداخلي، ويعي أنه لا يقل خطرًا عن الاحتلال الخارجي، لأنه يقوّض مناعة المجتمع من الداخل.
وهنا تتضح الإحالة إلى مفهوم فانون للاستلاب الفكري والاستعمار الداخلي، حين تمارس النخب نفس العنف الرمزي الذي يمارسه المستعمِر.

ورغم جاذبية المفارقة التي أقامها الكاتب بين “بلاد التنين” و” بلاد التنوين”، فإن المقارنة تظل رمزية أكثر منها واقعية.

اولا، لأن النظام الصيني يستند إلى سلطة مركزية شمولية تفرض الانضباط بالعقاب، لا بحرية الوعي، بينما الفساد في الأنظمة العربية ليس نتيجة غياب العقوبة فحسب، بل نتاج لبنية ريعية تربط السلطة والثروة بالولاء لا بالكفاءة.
لذا لا يمكن قراءة الانضباط الصيني بوصفه “نموذجا أخلاقيا”، بل بوصفه أداة حكم مختلفة في الشكل، متشابهة في الجوهر السلطوي، متباينة في الأداء والتأثير.
ومع ذلك، يظلّ التوازي اللغوي بين “التنين” و“التنوين” مجازا بارعا لكشف المسافة الفاصلة بين الفعل والانفعال في النظامين.

ثانيا، يُلاحظ عدم التعمق الكافي في مصادر الفساد الكامنة في البنى السياسية والاقتصادية والثقافية المرتبطة بالمستعمِر، ففي خلفية المفارقة التي يرسمها جابر، يكمن الاقتصاد الريعي الذي يجعل الفساد شرطا لبقاء النظام لا انحرافا عنه. فحين تكون الثروة ناتجة عن التعاون مع المحتل، والقرب من السلطة، وليس عن الإنتاج، يصبح الفساد آلية لتكريس التبعية وتوزيع للامتيازات.
هنا يتجلّى جوهر نقد جابر: أن مكافحة الفساد في “بلاد التنوين” تصطدم ببنيةٍ تنتجه يوميا، لأن النظام السياسي نفسه يعتمد عليه للاستمرار ولضمان الولاء.
هذه القراءة تضع المقال في سياق أعمق، يجعل من السخرية أداة لكشف اقتصاد الفساد وليس مجرد وصف أخلاقي له.

ثالثا، التعميم الذي يجعل كل الأنظمة العربية متشابهة في درجة الفساد منذ لحظة ما بعد الاستقلال، وفي ذلك مجافاة لتجارب عربية تحررية تم سحقها في مراحل مبكرة. وإن كان جابر قد اختار “بلاد التنوين” كرمزٍ جامع للعالم العربي، فإن من الضروري الإشارة إلى أن ظاهرة الفساد ليست متجانسة في جميع الدول. فهناك تجارب حاولت إرساء آليات رقابة ومساءلة، لكنها واجهت مقاومة من الخارج، أو من بنية السلطة، أو ومن الثقافة الاجتماعية نفسها، أو منها جميعا كما في الحالة الفلسطينية.
ورغم أن التعميم هنا وظيفة بلاغية وليست تحليلية، فالكاتب لم يسع إلى وصف كل الدول، بل إلى رسم صورة مجازية للمنظومة الذهنية، التي تسمح للفساد بأن يصبح “نظاما حياتيا”. بهذا الفهم، تصبح بلاد التنوين فضاء رمزيا لا جغرافيا.

وبالرغم من ذلك، يمكن اعتبار مقال غسان جابر بيانا ضد “الاغتراب الإداري” في العالم العربي،

ودعوة لتحرير اللغة وتصويب دورها الوظيفي، فاللغة في “بلاد التنين” تؤدّي وظيفتها كأداة تنظيم وتطوير وإصلاح، أما في “بلاد التنوين”، فاللغة نفسها تحلّ محلّ الفعل، فتحوّل السياسة إلى نحو، والإصلاح إلى تنوين.

ودعوة لاستعادة العلاقة الطبيعية بين الدولة والمجتمع، بين المواطن والسلطة، حيث يكون القانون أداة عدل لا أداة تزيين، وحيث يتحول الخطاب إلى فعل لا تبرير.

لا يقدّم غسان جابر في مقاله حلولا جاهزة، لكنه يلمّح إلى طريق الخلاص حين يقول: “الأمل لا يخضع للرقابة، ولا يحتاج إلى لجنة.” فالأمل هنا ليس انفعالا نفسيا، بل فعل مقاومة معرفية وثقافية ضد البيروقراطية التي خنقت الفعل.
فالإصلاح لن يتحقق بتشديد القوانين فحسب، بل بإعادة بناء الوعي، وتصويب العلاقة بين المعنى والمسؤولية، وبين اللغة والفعل. وحين تعود اللغة إلى وظيفتها كأداة للتنظيم لا للتزيين، يصبح الإصلاح ممكنا.

ختاما، يشكل مقال غسان جابر “الفساد بين بلاد التنين وبلاد التنوين” نموذجا نادرا للنقد الفلسطيني والعربي المعاصر، الذي يجمع بين الوعي السياسي، والفكر النقدي، والأسلوب الأدبي. ويسلط الضوء على مكامن العطب الذاتي، ولا يختزل النقد في الأشخاص أو الأخلاق فقط، بل يقدم نقدا سياسيا – اقتصاديا – ثقافيا – لغويا، ساخرا يكشف جذور الفساد البنيوية في مرحلة مفصلية يواجه فيها الشعب الفلسطيني والأمة العربية تحديات وجودية، ويحوّل اللغة نفسها إلى أداة وعي ومقاومة. وهنا تتجلى رسالة المقال العميقة: لا يمكن هزيمة الفساد إلا بمشروع نهضوي تحرري شامل، يبدأ بتحرير اللغة والخطاب أولا.

 

مشاركة: