الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   26 تشرين الأول 2025

| | |
إسرائيل والإبراهيمية الحديثة: من اختراع الشعب إلى الانقلاب على الإيمان الإنساني
غانية ملحيس

مقدمة وملخص تنفيذي 

نظرا لطول هذا المقال وغناه بالتفاصيل التاريخية والسياسية والفكرية، نقدم للقارئ ملخصا تنفيذيا يحتوي على أهم النقاط الجوهرية لتسهيل الفهم السريع للموضوع قبل الغوص في التفاصيل. المقال الكامل متاح للمهتمين بمراجعة السياقات التاريخية والتحليلات التفصيلية.

الملخص التنفيذي

1. إسرائيل: الدولة التي اخترعت شعبها

•     الصهيونية مشروع قومي سياسي حديث، ظهر في أوروبا القرن التاسع عشر، وليس امتدادًا لدولة يهودية قديمة.

•     مؤسسو الصهيونية غالبا كانوا علمانيين، وتأثروا بالقوميات الأوروبية والداروينية الاجتماعية.

•     المجتمع الإسرائيلي متعدد الأصول والثقافات، ولم يوحده إلا الهدف السياسي الاستيطاني ضد الفلسطينيين.

•     العبرية الحديثة أُعيد إحياؤها لتوحيد المهاجرين، وهي أكثر قومية من كونها استمرارا للعبرية التوراتية.

2. خطر النموذج الإسرائيلي

•     تحويل الدين إلى أداة سياسية قد يؤدي إلى تقسيم العالم إلى “دول دينية” وصراعات مذهبية.

•     إسرائيل نموذج هجين يجمع الدين والسياسة والاستعمار والهيمنة الغربية.

3. الإبراهيمية الحديثة

•     مشروع سياسي – ثقافي - ديني لتسويق التطبيع وشرعنة وجود إسرائيل.

•     يحوّل الدين إلى أداة سلطوية، ويعيد تشكيل الإنسان والتاريخ لصالح القوى المهيمنة.

4. التطبيقات العملية

•     الحروب المتتابعة على غزة منذ 2008 استخدمت الرموز الدينية لتبريرالاحتلال والاستيطان.

•     صفقة القرن وخطة ترامب تهدفان لتثبيت النفوذ الإسرائيلي باستخدام الدين كغطاء.

•     وثيقة “غيتا” تسعى لإعادة هندسة غزة سياسيا واقتصاديا وثقافيا تحت إشراف إسرائيلي ودولي.

5. الانقلاب على الدين والإيمان الإنساني

•     الإبراهيمية الحديثة تفرغ الدين من جوهره الروحي وتخضع الإنسان والتاريخ للهيمنة.

•     الحل المقترح: بناء إيمان إنساني شامل ومستقل عن النفوذ الخارجي والأصوليات، وإعادة الدين لدوره كوسيلة للوعي والصفاء الروحي.

الخلاصة

•     إسرائيل اخترعت الشعب اليهودي سياسيا وحوّلت الدين إلى أداة استعمارية.

•     الإبراهيمية الحديثة مشروع عالمي لإخضاع الدين والإنسان والتاريخ لصالح الهيمنة الغربية والصهيونية.

•     الحل يكمن في استعادة جوهرالدين الإنساني والتوحيدي كأساس للعدالة والحرية والوعي.

 

المقال الكامل

 

إسرائيل - الدولة الدينية التي اخترعت شعبها

 

لم تكن إسرائيل الصهيونية - كما يروّج ترامب حين يتحدث عن صراع عمره ثلاثة آلاف عام - امتدادا لدولة يهودية قديمة، بل خروجا عليها من الداخل. فاليهودية ديانة توحيدية قديمة، رسخت مفهوم العهد الروحي بين الإنسان والخالق، بينما جاءت الصهيونية في القرن التاسع عشر كمشروع قومي - سياسي نشأ في أوروبا، مستلهما القوميات الحديثة والاستعمار الأوروبي.

 

كثير من مؤسسيها لم يكونوا متدينين، بل علمانيين متأثرين بالفكر القومي الأوروبي والداروينية الاجتماعية (البقاء للأقوى)، وسعوا إلى تحويل الانتماء الديني إلى هوية سياسية قابلة للتوظيف الاستعماري.

 

من المفارقات أن بعض اليهود الأوروبيين المعادين لليهودية الدينية، أو الذين سعوا إلى التخلص من اليهود الفقراء في أوروبا الشرقية، كانوا من أبرز داعمي المشروع الصهيوني، ما يجعل الصهيونية في جانب منها نتاجا لعداء داخلي لليهود، قبل أن تكون مشروعا قوميا ضد غير اليهود.

 

وعلى الجانب الآخر، ظلّت تيارات يهودية دينية، مثل طائفة “ناطوري كارتا” ومفكرون علمانيون نقديون، تعتبر الصهيونية انحرافا عن التعاليم التوراتية وتمردا على الوعد الإلهي، لأن العودة إلى الأرض المقدسة، وفق النصوص اليهودية، مشروطة بسلام روحي لا باحتلال عسكري.

الصهيونية اليهودية كأيديولوجيا استعمارية، بشقيها العلماني والديني، استغلت الرموز الدينية لتبرير مشروع سياسي استيطاني إحلالي، تماما كما استغلت الإمبراطوريات الأوروبية والصهيونية المسيحية رموز الدين لتبرير الاستعمار في القرون السابقة.

 

يهود إسرائيل لا يشكلون شعبا موحدا بالمعنى العرقي أو السوسيولوجي التقليدي، إذ يضم هذا المجتمع مزيجا عالميا من أصول أوروبية (الأشكناز)، وآسيوية وإفريقية (السفارديم، المزراحيين، الفلاشا)، ولاتينية، ويحملون ثقافات متباينة، ويتحدثون لغات متعددة. وفشلت سياسة الصهر في توحيدهم. يوحدهم هدف استئصال الشعب الفلسطيني من أرض وطنه للعيش فوق أنقاضه، والعداء للمحيط العربي والإسلامي، والخوف الوجودي بسبب الاستهداف العنصري الأوروبي الطويل والنازية. رغم أن اليهود عاشوا مع شعوب المنطقة العربية - الإسلامية كمكون أصيل من النسيج المجتمعي على امتداد قرون قبل التغلغل الصهيوني، وبالرغم من تفوق إسرائيل في موازين القوى على المحيط العربي، وتفردها بامتلاك السلاح النووي المستثنى من الرقابة الدولية.

 

اللغة العبرية الحديثة المعاد إحياؤها في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ليست العبرية القديمة، ولا تشبهها إلا في رموزها. استُخدمت لتوحيد مجموعات يهودية متفرقة.

 

بهذا المعنى، لم تُبن إسرائيل، كما باقي الدول الحديثة، على رابطة عرقية أو قومية طبيعية، بل على رابطة دينية رمزية مشوهة لا علاقة لها بصحيح الدين اليهودي، تم تحويلها إلى قومية سياسية للقيام بدور مزدوج: حل المسألة اليهودية المتفاقمة بفعل تنامي العنصرية الأوروبية، ومن جهة أخرى توظيفها في إدامة الهيمنة الاستعمارية الغربية على عموم المنطقة العربية - الإسلامية، التي تتموضع في مركز العالم، وتشرف على خطوط الملاحة والتجارة  والمواصلات والاتصالات الدولية، وتملك ثروات طبيعية ومعدنية وفيرة، وطاقة أحفورية ما تزال تشكل عصب الاقتصاد الدولي، هي الأرخص كلفة استخراجية والأضخم عالميا في احتياطياتها المؤكدة. فضلاً عن قداسة المنطقة لأتباع الرسالات السماوية الثلاث / اليهودية والمسيحية والإسلام/ التي يدين بها ثلاثة أرباع البشرية.

 

فلم يكن “الشعب اليهودي” موجودا بوصفه جماعة قومية موحدة منذ العصر الروماني، بل تم اختراعه أيديولوجيا في القرن التاسع عشر كأداة لتبرير مشروع سياسي واستيطاني إحلالي حديث. جذور هذا المشروع مرتبطة بسياقات التوسع الاستعماري الأوروبي في المشرق خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث ظهرت حركات قومية وأيديولوجيات استعمارية حاولت بناء دول قائمة على الهوية الدينية أو العرقية.

 

خطورة النموذج الإسرائيلي

 

تكمن خطورة النموذج الإسرائيلي في أنه يشرعن فكرة أن الدين يمكن أن يُنتج شعبا وقومية وهوية سياسية قابلة للتجسيد السيادي، خلافا لصحيح الأديان العابرة للقوميات، والأعراق، والأجناس، والألوان.

ولو سعت الديانات الأخرى، وعددها يقدر بالآلاف، منها ثلاثة عشر كبرى، إلى استنساخ النموذج الإسرائيلي، لأصبحت البشرية خريطة من “دول الأديان”، وقد يؤدي ذلك إلى تقسيم سياسي للشعوب وفقا لانتماءات دينية وطائفية ومذهبية، يؤسس للإقصاء والصراع بدل التعايش.

 

المفارقة أن إسرائيل تتسم بفرادة تاريخية: إنها ليست دولة قومية بالمعنى الحديث، ولا دينية بالمعنى الروحي، بل تركيب هجين من الأيديولوجيا والسياسة، جمعت الدين المحرف والهوية والاستعمار في كيان واحد، فصنعت دولة اخترعت شعبها لتمنح شرعية دينية لمشروع استعماري غربي وظيفي.

 

تتولد اليوم أشكالٌ محددة من الحداثة الغربية - لا الحداثة بأسرها - حيث تتقاطع سياسات دولية وإقليمية، شبكات مالية وصناعات عسكرية، وبعض التيارات الأيديولوجية (منها تيارات سياسية مسيحية ملوَّنة بصهيونية مسيسة) لتشكيل نموذج عملي يسوّق لتسييس المقدس وشرعنة مشاريع استيطانية. من المهم التمييز هنا بين البنية الحداثية الغربية في منجزاتها المفيدة وتنوعها الإنساني، وبين توظيف بعض مؤسساتها وآلياتها في مشاريع هيمنة استعمارية.

 

القوى الاستعمارية الغربية وإعادة هندسة العالم

 

مع صعود القوى الأوروبية في القرن السادس عشر، وفصل الكنيسة عن الشؤون الدنيوية، بالتزامن مع الاستكشافات الجغرافية لما وراء البحار، وظهور الرأسمالية، وإحلال قوانين السوق محل القوانين الإلهية الناظمة للكون منذ بدء الخليقة، بدأت هذه القوى في إعادة هندسة العالم لتحقيق الهيمنة الاقتصادية والسياسية.

• تركزت الهيمنة الأولى على أوروبا والمناطق المكتشفة حديثًا في أمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندا، وجزء من أمريكا اللاتينية، وترافقت مع إبادة الشعوب الأصلية واستعباد ملايين الأفارقة.

• توسعت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لتشمل نصف الكرة الجنوبي.

• في القرن العشرين أعادت أعادت اتفاقيات سايكس - بيكو (1916)، تصريح بلفور (1917)، وقرارات سان ريمو (1920) رسم الحدود والهويات الوطنية في المنطقة العربية - الإسلامية، ووضعت الأساس لتدخلات لاحقة لدعم إنشاء المشروع الاستعماري الصهيوني الاستيطاني الإحلالي في فلسطين. التي تتموضع في مركز الوصل الجغرافي والديموغرافي والحضاري.

 

•  مع بدء التوسع الاستعماري الأوروبي في المشرق، تنامت هجرة اليهود الأوروبيين إلى فلسطين. شكل اليهود العرب نحو 1.7% من إجمالي سكان فلسطين عام 1830، فيما شكل المسيحيون 3.3% والمسلمون 95%. تضاعفت نسبة اليهود في فلسطين بسبب الهجرة الاستيطانية لتصل إلى نحو 10% عام 1914، بينما نما الوزن النسبي للمسيحيين إلى 8% وتراجع للمسلمين إلى 82%.

خلال أقل من ثلاثة عقود من الانتداب البريطاني (1920–1948)، ارتفع الوزن النسبي لليهود (غالبيتهم الساحقة من الأوروبيين حديثي الهجرة) إلى 32% عام 1947، وتراجعت نسبة المسيحيين إلى 4.6%، وللمسلمين إلى 63.4%. وصل المكون الأوروبي من سكان فلسطين إلى نحو 31% من إجمالي السكان.

 

•  بعد الحرب العالمية الثانية، منح النظام الدولي المستحدث (الأمم المتحدة) الشرعية السياسية والقانونية لإنشاء إسرائيل في فلسطين. في 29/11/1947، أصدر قرار التقسيم رقم 181، الذي منح 32% من السكان اليهود 55% من مساحة فلسطين الانتدابية، وخصص لأصحاب البلاد الأصليين من العرب 44%.

•  في 14/5/1948 تم إعلان إقامة دولة إسرائيل على 78% من مساحة فلسطين الانتدابية، وهُجر 750 ألف فلسطيني (مسيحيون ومسلمون) خارجها.

ولم ينضم اليهود السامريون الفلسطينيون الأصلانيون للدولة اليهودية المستحدثة، بل واصلوا العيش كمكون أصيل من الشعب الفلسطيني في المناطق الفلسطينية التي بقيت خارج الاحتلال الصهيوني (نابلس).

 

•  وفي 11/5/1949 أصدر النظام الدولي القرار 273 بقبول عضوية الدولة المستحدثة في الجمعية العامة للأمم المتحدة مشروطًا بـ:

 1 اعتراف إسرائيل بميثاق الأمم المتحدة،

 2 التزامها بتنفيذ قرار التقسيم رقم 181 الصادر في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947، (الذي نص على وضع خاص للقدس، وإقامة دولة عربية ومنع قيامها، وأخرى يهودية أقيمت فعليا، وتجاوزت المساحة المخصصة لها بالاستيلاء على نصف المساحة المخصصة للدولة العربية).

3 التزامها بتنفيذ قرار اللاجئين رقم 194 الصادر في 11 كانون الأول/ديسمبر 1948، الذي نص على حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم والتعويض.

 

•  بعد أقل من عقد على إنشاء إسرائيل، في 29 تشرين الأول/ أكتوبر إلى 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1956 شاركت إسرائيل مع بريطانيا وفرنسا في العدوان الثلاثي على مصر إثر تأميم قناة السويس، واحتلت قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء المصرية، ثم اضطرت للانسحاب في آذار/مارس 1957 إلى خطوط الهدنة، بعد الإنذار الأمريكي-السوفييتي.

 

 •  بعد عقد واحد في حزيران 1967، قامت إسرائيل باحتلال باقي الأراضي الفلسطينية، وهضبة الجولان السورية - ما تزالان تحت الاحتلال - وشبه جزيرة سيناء المصرية / انسحبت منها لاحقا بعد توقيع اتفاقية السلام مع مصر، أخرجت مصر من دائرة الصراع العربي - الصهيوني، وألزمتها بالانكفاء داخل حدودها القطرية (وقع اتفاق الإطار الذي بدأ التفاوض عليه بعد حرب أكتوبر ومهّد للسلام بين مصر وإسرائيل في 17/9/1978، بعد ستة أشهر من احتلال إسرائيل جنوب لبنان حتى نهر الليطاني في 14/3/1978).

 

•  في الرابع من حزيران 1982 اجتاحت إسرائيل لبنان وحاصرت بيروت الغربية، وفي 20/8/1982 تم توقيع اتفاق، برعاية أمريكية، أسفر عن إخراج فصائل منظمة التحرير الفلسطينية كليا من لبنان، وهو ما تم فعليا في 30/8/1982، لينتهي بذلك وجود المقاومة الفلسطينية المسلحة في الجوار العربي المحيط بفلسطين.

 •  في 15/9/1982، اجتاحت إسرائيل بيروت الغربية، وفي اليوم التالي، دخلت القوات اللبنانية تحت حماية الجيش الاسرائيلي مخيمي صبرا وشاتيلا، وعلى مدى ثلاثة أيام، ارتكبت مجازر ضد الفلسطينيين العزل راح ضحيتها أكثر من 3500 فلسطينيي وعشرات اللبنانيين من سكان المخيمين. (لتجنب الإدانة الدولية شكلت إسرائيل لجنة للتحقيق/ لجنة كهان / التي حملت أريئيل شارون، الذي كان حينها وزير الدفاع الإسرائيلي، “مسؤولية شخصية غير مباشرة” عن المجزرة. وقالت إنه تجاهل الخطر الواضح من إدخال الميليشيات إلى المخيمات، رغم علمه المسبق باحتمال وقوع مذبحة. أوصت اللجنة بإقالته من منصبه كوزير للدفاع، وبقي وزيرا بلا حقيبة، وبعد بضع سنوات عاد وأصبح رئيسا للوزراء.

 

•  في 9/12/1987 اندلعت انتفاضة شعبية شملت جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، وحظيت باهتمام وتعاطف دولي مع المطالب الفلسطينية بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي الناشئ عام 1967، فسارعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى عقد مؤتمر مدريد للسلام في 30/10/1991، واستبدلت المرجعية الدولية وقرارات الشرعية الدولية لحل الصراع العربي - الإسرائيلي بتفاوض ثنائي مباشر بين الأطراف المنخرطة مباشرة في الصراع، وبتفاوض إقليمي مواز يفصل الاقتصاد عن السياسة، ويؤسس للتعاون الإقليمي بمعزل عن حل الصراع.

 

•  في 13/9/1993 أبرمت منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقا مع إسرائيل برعاية أمريكية حول حكم ذاتي انتقالي لخمس سنوات، تعترف بموجبه المنظمة كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني بحق إسرائيل في الوجود على 78% من أرض فلسطين الانتدابية، والدخول في مفاوضات لحل نهائي للصراع على أساس تقاسم الوطن الفلسطيني وفق الأقدمية الزمنية لاحتلاله، والتوافق عبر التفاوض على حل ما سمي بقضايا الوضع النهائي (الحدود والمياه والاستيطان والقدس واللاجئين والعلاقات الخارجية).

 

•  في تموز 2000 فشلت مفاوضات كامب ديفيد، رغم موافقة الفلسطينيين على تعديل حدود الرابع من حزيران بتبادل أراض تضم الكتلة الاستيطانية الرئيسية، مقابل أراض داخل الخط الأخضر توافق عليها إسرائيل، وحمل الرئيس عرفات مسؤولية الفشل لرفضه التنازل عن القدس الشرقية وعن قضية اللاجئين.

 

•  في 28/9/2000 اقتحم وزير الحرب الإسرائيلي شارون الحرم القدسي تحت حراسة 3000 جندي، وقتل وجرح عدد من المحتجين الفلسطينيين على الاقتحام، ما تسبب في اندلاع انتفاضة الأقصى في عموم الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967.

تناول مقالي المعنون “استعادة المشهد: من خارطة الطريق إلى خطة ترامب” في 16/19/2025 التطورات التي تلت فشل مفاوضات كامب ديفيد في تموز 2000 وهو متاح لمن يرغب على موقعي الإلكتروني ghaniamalhees.com.

 

•  في العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين، برزت محاولات لحسم الصراع بتجاوز حقوق الشعب الفلسطيني، وإبرام اتفاقيات سلام مع الدول العربية غير المنخرطة مباشرة في الصراع، وبدأ ترويج مفهوم “السلام الإبراهيمي” كإطار سياسي - ثقافي - ديني يعكس مصالح إسرائيل والقوى الغربية المهيمنة.

ولم يكن تأثير القوى الخارجية وحده كافيا لتثبيت هذا المسار، إذ احتاج إلى استعداد داخلي يسهّل قبول السياسات الجديدة وتطبيقها. ورغم أن القوى الخارجية، وفي مقدمتها السياسات الأميركية والغربية وتحالفاتها الإقليمية، كانت المحرك الأبرز لما سُمّي لاحقا بـ «الإبراهيمية الحديثة»، فإن هذا المسار ما كان ليجد طريقه لولا استجابة داخلية من بعض الأنظمة والنخب التي رأت في التطبيع مخرجا براغماتيا لأزماتها الأمنية والاقتصادية، أو وسيلة لتثبيت شرعيتها المتآكلة في ظل هشاشة الوضع السياسي. وهكذا تتقاطع الهيمنة الإبراهيمية بين ضغط الخارج وقابلية الداخل، في معادلة تنتج خضوعا مركبا لا يُختزل في التواطؤ وحده، بل في البنية التي جعلت هذا التواطؤ ممكنا.

 ويظهر من هذا التلاقي بين الخارج والداخل كيف أن الهيمنة الإبراهيمية ليست مجرد فرض خارجي، بل عملية مركبة تعكس هشاشة الهياكل السياسية المحلية وقدرة القوى الإقليمية والدولية على استغلالها.

وهكذا، سعت"الإبراهيمية الحديثة " إلى إعادة إنتاج “إسرائيل” كنموذج رمزي للعصر الحديث: دولة - دين، ودين - دولة، واستكمال تقسيم دول سايكس - بيكو إلى دول دينية وطائفية ومذهبية، وإثنية، لتشريع يهودية إسرائيل، ولتمكينها من قيادة الإقليم وإدامة الهيمنة الأمريكية والغربية.

 

•  يسعى أطراف نظام الحداثة الغربي الصهيوني المادي العنصري المهيمن - الذين يحتكرون تعريف الإيمان والسيادة والتاريخ منذ أن انقلب على الأديان والحضارات التي سبقته - عبر التبشير بـ “الديانة الإبراهيمية” كديانة تعددية جامعة، إلى إعادة كتابة تاريخ المنطقة وعموم التاريخ الإنساني، في محاولة لتفريغ المعنى التوحيدي من جذره الروحي والإنساني، وتحويله إلى إطار سياسي - ثقافي يخدم مشروع السيطرة الغربية الصهيونية.

فعوضا عن أن تكون “الإبراهيمية” رمزا لوحدة الإنسان في وجه الوثنية والمادية، جرى توظيفها كغطاء أيديولوجي لمرحلة جديدة من الهندسة الجيو - ثقافية للمنطقة، التي يُراد تفكيك هويتها الحضارية الأصيلة الجامعة للأعراق والإثنيات والقوميات والأجناس والألوان والأديان والطوائف والمذاهب، واستبدالها بهوية هجينة لجماعات متصارعة خاضعة لمنطق السوق والعولمة الأمنية.

 

الإبراهيمية الحديثة والانقلاب على الأديان والتاريخ

 

" الإبراهيمية الحديثة” التي يُبشّر بها ترامب، ليست استمرارية للأديان التوحيدية القديمة، بل انقلاب ناعم عليها، واستبدالها بتحالف عالمي لقوى جديدة ظهرت في القرن الثامن عشر ونمت في القرنين التاسع عشر والعشرين، في لحظة تاريخية كانت تشهد:

•  توسع الاستعمار الأوروبي.

•  صعود الحداثة الغربية والعقل الأداتي.

•  انهيار البنى الدينية التقليدية.

فأعادت تعريف نفسها ضمن سياقات سياسية، استعمارية، وحداثية، ولجوء بعضها إلى رد فعل مزدوج: الدفاع عن “الهوية المقدسة” ضد الحداثة، لكنها في الوقت نفسه استخدمت أدوات الحداثة (السياسة، الدولة، السلاح، الرأسمال، الإعلام) لتثبيت نفسها. وحرصت جميعها على استخدام الرموز الدينية التقليدية للإيحاء بالاستمرارية.

 

•  الأديان الإبراهيمية الأصلية - اليهودية والمسيحية والإسلام - سعت للتنوير المعرفي للخلق بقوانين الخالق، ولتنظيم العلاقات بين البشر وبين الطبيعة وفق أحكامها. أما النسخة التي يُروَّج لها من “الديانة الإبراهيمية الحديثة”، فهي مشروع يفرغ الدين من معناه الروحي ليجعله طوعا لمنطق السوق والتطبيع والهيمنة الثقافية.

بهذا المعنى، تتحوّل “الإبراهيمية الحديثة” إلى دين بلا وحي، ووحدة بلا حرية، وسلام بلا عدالة. إنها لا تجمع المؤمنين على قاعدة التوحيد، بل تُعيد تشكيلهم على قاعدة الطاعة لنظام الحداثة الغربي - الصهيوني المادي العنصري المعولم.

إنها انقلاب على الأديان لأنها تستبدل الجوهر الإلهي بالمصلحة السياسية والاقتصادية. 

 انقلاب على التاريخ لأنها تمحو الذاكرة النبوية لصالح السردية الغربية

انقلاب على الإنسان لأنها تنزع عنه فطرته الإيمانية لتعيد إنتاجه كمستهلك روحي في سوق العولمة.

 

هكذا تكتمل الدائرة: من اختراع الشعب اليهودي لتبرير الكيان الصهيوني، إلى اختراع “الديانة الإبراهيمية الحديثة” لتكريس هيمنة نظام الحداثة المعولم. 

 

“الإبراهيمية الحديثة” والانقلاب على الإيمان الإنساني كله

 

"الإبراهيمية الحديثة” لا تنقلب فقط على الأديان السماوية، بل على مجمل التراث الإيماني والروحي والفكري للإنسانية. فهي تُخضع جميع المنظومات الدينية والفلسفية - من الوحي إلى الحكمة، ومن النبوة إلى الفلسفة - لمنطق واحد: العقل الأداتي والسيطرة والعولمة.

 

إنها انقلاب على الديانات السماوية لأنها تفرغ الوحي من روحه، وتحوله إلى إدارة للتعدد. وانقلاب على الديانات الوضعية لأنها تُفرغ الفلسفة من معناها، وتحوّل العقل إلى أداة لتبرير المصلحة. وانقلاب على الإنسان لأنه يفقد فيه ذاته الإيمانية الحرة، ويُعاد تشكيله كمستهلك في منظومة “سلام إداري” يقتل المعنى باسم التعايش.

هكذا تصبح “الإبراهيمية الحديثة” ديانة الحداثة المادية العليا، تجمع في جوفها نقيضين: المقدس والمدنس، الروح والسوق، الله والسلطة، وبذلك تُعلن نهاية التاريخ الروحي للإنسان، وتبدأ مرحلة ما بعد الإيمان، حيث تُدار الروح كما تُدار الأسواق، ويُستبدل الوحي بالهيمنة الرمزية.

 

الإبراهيمية الحديثة وحرب الإبادة في غزة، وخطة ترامب ومؤامرة غيتا

 

توضح حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في قطاع غزة، المتواصلة منذ 7/10/2023، بما وثقته مؤسسات العدالة الدولية وتقارير منظمات حقوق الإنسان، بما فيها منظمات إسرائيلية، أن التحوير العقائدي والثقافي والسياسي للدين في “الإبراهيمية الحديثة” لا يظل مجرد خطاب نظري، بل يُترجم على الأرض عبر سياسات ومشاريع استراتيجية وعمليات عسكرية ووصاية دولية.

يمثل هذا التحوير محاولة لإحلال ديانة الحداثة المادية العليا محل الديانات الأصلية، وتحويلها إلى أداة لإدارة التعدد الديني والسياسي وتثبيت الهيمنة العالمية.

يستغل الدين كغطاء لإضفاء شرعية على الاحتلال ومشاريع التوسع الاستيطاني، بدل أن يكون سبيلاً للتحرر والانعتاق.

 

خطة ترامب للسلام – صفقة القرن

 

قدم ترامب عام 2020 صفقة القرن كإطار للتعايش السلمي لشعوب المنطقة، لكنها في الواقع تهدف إلى تثبيت النفوذ الإسرائيلي والتطبيع، وإضفاء شرعية دولية على الاستعمار الاستيطاني الصهيوني الإحلالي.

يستغل الدين هنا كغطاء شرعي، بينما الواقع يعكس سياسات فرض الهيمنة.

 

حروب غزة: التطبيق العملي 

 

•  استخدمت الرموز الدينية والسياسية لتبرير العمليات العسكرية والاستيطان وسياسات الحصار والتجويع ضد الشعب الفلسطيني. تشمل هذه العمليات الحروب المتتابعة على قطاع غزة منذ 2008 وحتى 2025، والتي أُطلق عليها تسميات رمزية دينية مثل:

•     الرصاص المصبوب (2008-2009) - التطهير.

•     عمود السحاب (2012) - الخروج المقدس.

•     الجرف الصامد (2014) - الثبات الأخلاقي.

•     حارس الأسوار (2021) - حماية الهيكل.

•     بزوغ الفجر (2022) - الخلاص والبعث من جديد.

•     السيوف الحديدية (2023-2025) - عدالة الرب، ثم استبدلت بالانبعاث القومي - النهوض وإعادة تأسيس الذات.

إذ يتم استخدام الرموز التوراتية لتبرير حرب الإبادة والتطهير العرقي للشعب الفلسطيني.

 

مؤامرة غيتا (Gita)

 

بعد تعذر حسم الصراع ميدانيا بسبب بسالة المقاومة في قطاع غزة، والصمود الأسطوري لحاضنتها الشعبية، واستعصاء القطاع على الاستسلام، رغم جسامة الخسائر التي تسببت بها حرب الإبادة الجماعية للبشر والحجر والشجر والذاكرة، والتجويع والتهجير المتكرر لأكثر من مليوني فلسطيني على مدى أكثر من عامين، ما كشف للعالم أجمع حقيقة المشروع الاستعماري الصهيوني الاستيطاني الإحلالي وعنصريته، وعرّى نظام الحداثة المادي الغربي المهيمن، وأظهر زيف قيمه وشعاراته المتصلة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وأحدث صدوعا عميقة داخل المجتمعات الغربية، وأسهم في تنقية الوعي الدولي مما علق به من تشوهات على مدى 75 عاما.

سارع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب - الذي عطلت بلاده إصدار قرار لوقف حرب الإبادة في غزة لمدة عامين كاملين، باستخدام الفيتو ست مرات متتالية - إلى دعم استئصال الفلسطينيين من القطاع وتهجيرهم خارج وطنهم، وأعلن رغبته في استملاك قطاع غزة لإنشاء ما أسماه “ريفيرا الشرق الأوسط”. وأمهل منذ توليه الحكم رئيس الوزراء الإسرائيلي عشرة أشهر لإنجاز المهمة، وقدم الدعم العسكري والتكنولوجي والاستخباراتي، بالإضافة إلى الدعم الاقتصادي والسياسي لمنع مساءلة إسرائيل عن جرائم الإبادة والتجويع. وعندما عجزت إسرائيل عن إخضاع قطاع غزة، وبات الغضب الشعبي العالمي، بما في ذلك في الولايات المتحدة، يهدد بالخروج عن السيطرة، بادر ترامب بمبادرة للسلام، وتواطأت معه بعض الأنظمة العربية والإسلامية والسلطة الفلسطينية، لتطويع قطاع غزة سلما، وتحقيق ما فشلت القوى العسكرية في إنجازه.

فسارع للحضور للمنطقة، ووقع مع الوسطاء (تركيا، مصر، قطر) في شرم الشيخ اتفاقا لوقف إطلاق النار، وأعلن عن تشكيل مجلس للسلام برئاسته، وتشكيل سلطة انتداب انتقالية على غزة تحت إشراف المندوب السامي البريطاني الجديد طوني بلير، لخبرة بلاده التراكمية في تفكيك الأمم والدول، وخبرته الشخصية، كما سبق أن فعل في العراق.

لقد سبق ترجمة وثيقة “غيتا”، وتحليل أبعادها السياسية والاقتصادية والقانونية والثقافية في مقال منفصل، وكلاهما متاحان على موقعي الإلكتروني المشار إليه.

 

يمكن تلخيص أهداف وثيقة “غيتا” في:

• إعادة هندسة قطاع غزة سياسيا واقتصاديا وثقافيا تحت إشراف أمني إسرائيلي ووصاية دولية.

• توحيد السياسات الدولية والإقليمية خلف رموز دينية، واستخدام “السلام الإبراهيمي” كغطاء لإخضاع قطاع غزة وتصفية القضية الفلسطينية.

 

إن تأويل الدين واستخدامه كأداة للهيمنة أو السوق يؤدي إلى انقسام الإنسان عن جوهره الروحي، لذلك يصبح من الضروري بناء إيمان إنساني شامل مستقل عن الهيمنة الخارجية والأصوليات الدينية، والعودة إلى جوهر الديانات الإبراهيمية الأصلية: التوحيد، العدل، الرحمة، الحرية، والحقوق الإنسانية.

 

هذا الإيمان يعيد الدين إلى دوره كوسيلة للوعي المعرفي والصفاء الروحي، لا كأداة سلطوية، ويحتاج إلى رؤية نهضوية شاملة، وبرنامج تحرري إنساني يبدأ بتحرير الوعي من التشوهات، وبناء وعي معرفي جديد لضمان استقلالية الدين عن أي نفوذ يُستغل للسيطرة.

 

من اختراع إسرائيل إلى اختزال الإبراهيمية - اكتمال دورة تسييس المقدس

 

هكذا تكتمل الدورة التاريخية: بعد نجاح نظام الحداثة الغربي في تقييد المقدس، تم الشروع بتحريفه، حيث يصبح الإيمان أداة لا وعيا معرفيا، والروح مجرد وسيلة لا غاية في مشروع السيطرة على الإنسان والتاريخ.

 

•  يظهر النموذج الإسرائيلي كيف تم اختراع الشعب اليهودي وتوظيف الدين المحرف سياسيا لإضفاء شرعية على مشروع استعماري استيطاني إحلالي.

 

بينما تمثل “الإبراهيمية الحديثة” مشروعا عالميا يجمع بين الأديان الإبراهيمية المحرفة، والسلطة، والسوق، ويعيد تشكيل المعاني وفق تشابك مصالح القوى المهيمنة، بحيث:

 

يتحول الدين من رسالة إلهية إلى أداة سلطوية، 

ويُعاد كتابة التاريخ وفق سردية مهيمنة، 

ويصبح الإنسان مستهلكا روحيا خاضعا للنظام العالمي.

 

مشاركة: