الصديق العزيز هاني مندس،
قرأت مقالك المهم “الطوفان جعل الكيان يعيش على أجهزة التنفس الاصطناعي” بتمعّن، ووجدت فيه التقاطًا دقيقًا للحظة لا يريد كثيرون رؤيتها: لحظة الانهيار الداخلي الذي يسبق عادة سقوط الكيانات الاستعمارية من الداخل، قبل أن يسقط جدارها الخارجي.
لقد أصبتَ تمامًا في تحويل الأرقام والشهادات والتقارير إلى صورة بانورامية تُظهر ما يتجنّب الإعلام الصهيوني وأتباعه المذعورون من بني جلدتنا الاعتراف به: أن المجتمع الذي طالما قدّم نفسه بوصفه «حصنًا منيعا لا يُقهر» يعيش اليوم حالة انهيار نفسي بنيوي، وأن ما يسميه خبراؤهم “التسونامي النفسي” ليس حالة عابرة، بل مسارًا تاريخيًا بدأ ولن يتوقف.
ولعلّ ما يثبت صحة هذا التحوّل هو ما نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت نفسها قبل أسابيع، عندما تحدّثت عن الارتفاع غير المسبوق في نسب اضطراب ما بعد الصدمة بين الجنود، وعن “جيل كامل يفقد توازنه”، بحسب تعبير أحد مسؤولي الصحة النفسية. كما تزامن ذلك مع تقرير نشره مركز “تاوب” الإسرائيلي حول “تآكل الثقة المجتمعية” داخل الكيان، وهو تقرير لم يستطع واضعوه إخفاء نبرة القلق من مستقبل البنية الداخلية للمجتمع.
هذه الإشارات ليست هامشية، بل تعبّر عن بداية انهيار في “العمود العصبي” الذي بُني عليه الكيان صورته عن نفسه منذ عقود.
فالطوفان – كما أشرتَ أنت بدقة – لم يكن مجرد معركة عسكرية، بل كان زلزالًا معرفيًا هزّ روايتهم عن أنفسهم، وأسقط هالة الجيش، وعرّى هشاشة مجتمع بُني على الإبادة والخوف، وعلى وعي مشوَّه وذاكرة مجروحة، وعلى وهم التفوق والقدرة على السيطرة الدائمة. وقد نشرت جيروزالِم بوست في منتصف العام تقريرًا صادمًا يشير إلى أنّ “53% من الإسرائيليين يعتقدون أنّ قيادتهم العسكرية فقدت السيطرة”، وهو رقم يعكس الشرخ المعرفي الذي بات يُحدث موجات ارتدادية داخل كل بيت ومؤسسة.
وما نراه اليوم من انهيارات نفسية، وارتفاع في معدلات الانتحار والإدمان، وانهيار الثقة بالقيادة، وتفكك الروابط الاجتماعية – هو الثمن الطبيعي لبنية استعمارية استيطانية عنصرية إحلالية بُنيت على نفي الآخر والتنكر لحقوقه الثابتة غير القابلة للتصرف، وعلى إنتاج الخوف المستمر بوصفه شرطًا للبقاء.
وقد كشفت دراسة نُشرت في جامعة حيفا أنّ “الجنود العائدين من الجبهات يعانون من أعراض صدمة مركّبة تتجاوز الخبرة العسكرية التقليدية، وتمتد إلى الانهيار الأخلاقي وفقدان المعنى”، وهي نتائج تتطابق مع ما رصدته مراكز علاج الجنود المسرّحين، التي تحدّث بعضها عن “طلب متزايد على المهدئات يزيد بمعدل 300% منذ بداية الحرب”.
إن الأزمة التي نراها اليوم ليست أزمة نفسية فحسب، بل أزمة سردية عميقة: الكيان يفقد “الأسطورة المؤسسة” التي لطالما لامستها كل مؤسساته لعقود – أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، والمجتمع المتماسك، والقوة المهيمنة التي تملك زمام المبادرة دائمًا.
اليوم، كما تقول أبحاثهم واعترافاتهم، لم يعد هذا ممكنًا. لقد سقط الوهم، ومعه سقطت الثقة بالذات، وهذا أخطر من الهزيمة العسكرية ذاتها. حتى إن صحيفة هآرتس نشرت قبل أشهر مقالًا يحذر من “انهيار الإيمان بالأساس الوجودي للدولة”، وهو تحذير لو صدر قبل سنوات لاعتُبر ضربًا من المبالغة.
الأجيال التي تكبر اليوم في الملاجئ وتحت صفارات الإنذار، والجنود الذين يعودون منهارين من الجبهات، والعائلات التي تتآكل من الداخل – كلهم يشكّلون بنية وعي جديدة داخل المجتمع الصهيوني: وعيًا مهزومًا، وعيًا قلقًا ومرتبكًا، فاقدًا للثقة بالمستقبل. وهذا تمامًا ما يُنبّه إليه باحثوهم أنفسهم، مثل تقرير معهد الأمن القومي الإسرائيلي (INSS) الذي حذّر من “تآكل قدرة المجتمع على تحمّل الصدمات المستقبلية”، وهي عبارة تكشف جوهر الأزمة: إن الكيان يعيش حالة تفكك بطيء تشبه ما حدث في أنظمة استعمارية تاريخية حين تفقد قدرتها على إنتاج المعنى الجمعي الذي يوحّدها.
إن ما تكتبه – كما جاء في مقالك – ليس تشفّيًا، بل قراءة واقعية لمرحلة سياسية-نفسية من أخطر ما مرّ على المشروع الصهيوني منذ نشأته. فالطوفان لم يكسر هيبة الجيش فقط، بل كسر البنية العصبية التي تُمسك بهذا الكيان منذ 77 عامًا، تلك البنية التي كانت تقوم على استقرار نفسي هشّ، لكنه كان كافيًا، بقدرته التدميرية وغياب الإرادة العربية لتفعيل القدرة، لخلق وهم القوة.
وأنت محق تمامًا في أن ما نراه ليس “أزمة عابرة”، بل بداية تحوّل تاريخي طويل: سقوط يبدأ من الداخل، ويأكل الروح قبل الجسد – كما يحدث دائمًا للكيانات التي تُبنى على الإبادة والظلم والاستيطان والإنكار. وهذا ما أشار إليه بعض المؤرخين الإسرائيليين أنفسهم، مثل شلومو ساند وإيلان بابه وميكو بيليد وآخرين، حين تحدثوا عن “تآكل الشرعية الداخلية” بوصفها أخطر من أي تهديد خارجي.
ما كتبته يا صديقي هو شهادة على لحظة مفصلية في الصراع: لحظة يتفكك فيها المشروع الاستعماري في ذاته، بينما يزداد الطرف الفلسطيني – شعبًا ومقاومة وسردية – وبالرغم من تخاذل السلطة – حضورًا وصمودًا وقدرة على تحريك الوعي العالمي.
ولعلّ أهم ما كشفته الأشهر الماضية هو أنّ السردية الفلسطينية، لأول مرة منذ أكثر من قرن، أصبحت المرجع الأخلاقي والتحليلي لفهم ما يجري، ولتحرير الوعي العالمي، بينما تراجع الخطاب الصهيوني إلى موقع الاتهام والدفاع المتوتر المتردد.
دام قلمك الذي يرى ما وراء الضجيج،
فمثل هذه القراءات تُضيء المناطق المعتمة في المشهد، وتكشف ما يتجاهله الإعلام: أن التاريخ يتحرك الآن، وباتجاه واحد.
.
