الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   14 كانون الأول 2025

| | |
بين الجذرية والواقعية: كيف ننتقل من نقد الحكم الذاتي إلى بناء مسار تحرر؟
غانية ملحيس

 

من التشخيص إلى الفعل: قراءة مسار التحرر الفلسطيني

 

أثار نشر الورقة “من أزمة نموذج الحكم الذاتي الذي وصل مداه إلى تأسيس مشروع تغيير وطني جديد: مسودة للنقاش” ومقال خالد عطية “فلسطين بين الانقسام الوظيفي وصعود الشرعية الرمزية بعد الطوفان”، واللذان يتقاطعان حول فكرة مركزية بأن الأزمة الفلسطينية ليست أزمة سلطة أو قيادة أو أداء فحسب، بل أزمة نموذج سياسي بلغ مداه التاريخي.

وقد توافق مع ذلك الأستاذ يحيى بركات “فلسطين بين تشخيص البنية وسؤال الحامل: لمن هذه اللحظة؟” والمهندس غسان جابر “من نقد الأداء إلى تفكيك النموذج السياسي الفلسطيني”، وطرحا أسئلة جوهرية تتصل بشروط الفعل السياسي الفلسطيني في لحظة تاريخية بالغة التعقيد. لينتقل النقاش من مستوى تشخيص أزمة نموذج الحكم الذاتي إلى مساءلة إمكانات تجاوزه: مدى جاهزية المجتمع لتحمّل كلفة التحول، طبيعة الحامل السياسي القادر على ترجمته، وكيفية إدارة الانتقال دون السقوط في فراغ معيشي أو تنظيمي قد يتسبب بفوضى.

هذه الأسئلة تشكّل امتدادًا طبيعيًا للحوار الفكري، واختبارًا ضروريا لأي محاولة جادة للانتقال من نقد النموذج القائم إلى بلورة مسار تحرر وطني.

 

من هنا يأتي هذا الاشتباك الفكري بوصفه جزءًا من حوار أوسع قوامه التكامل لا التطابق، والاختلاف المنتج لا السجال. فرضيتنا المشتركة واضحة: نموذج الحكم الذاتي الفلسطيني استنفد وظيفته التاريخية، والاستمرار في إدارته لم يعد تعبيرًا عن الواقعية، بل عن إدارة أزمة مفتوحة.

 

وانطلاقا من هذه الخلاصة التي تحظى باجماع المتحاورين، وربما الغالبية الساحقة من ابناء الشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجه، يأتي هذا المقال للمساهمة في تعميق الحوار، لا لإغلاقه أو تقديم أجوبة نهائية، بل لإعادة ترتيب سؤال الانتقال من تشخيص الأزمة إلى مغادرتها.

 

المجتمع الفلسطيني: هل الجاهزية شرط أم نتيجة؟

 

تطرح القراءات النقدية سؤالًا مركزيًا ومشروعًا:

هل المجتمع الفلسطيني، المنهك معيشيا والمفتّت جغرافيًا، قادر على تحمّل قطيعة بنيوية مع نموذج الحكم الذاتي؟

 

هذا السؤال لا يعكس تحفظًا محافظًا، بقدر ما يعكس حرصًا سياسيًا على عدم تحويل المشروع التحرري إلى خطاب نخبوي معزول. 

لكن الاختلاف هنا منهجي أكثر منه سياسي.

 

تنطلق الورقة من فرضية أن الجاهزية الشعبية ليست شرطا مسبقا للتغيير، بل نتاجا لمسار صراعي تراكمي. فالوعي السياسي لا ينمو في لحظات الاستقرار الوظيفي، بل في لحظات الانسداد التي يصبح فيها الاستمرارأكثر كلفة من المغامرة.

التجربة الفلسطينية نفسها، من الانتفاضة الأولى إلى الهبّات اللاحقة، تُظهر أن المجتمع لا يتحرك لأنه “جاهز”، بل لأنه لم يعد قادرا على تحمّل الواقع القائم.

 

شبكات الرواتب والخدمات التي تبدو اليوم كعائق، هي في الوقت ذاته نقاط هشاشة للنموذج، وما يُقدَّم بوصفه شبكة أمان (الرواتب، الخدمات، المخصصات) تحوّل فعليا إلى بنية هشّة، مرتهنة سياسيًا وماليًا، وقابلة للانهيار.

تشير المؤشرات الاقتصادية الأساسية إلى تآكل عميق في قدرة نموذج الحكم الذاتي على الوفاء بوظيفته المعيشية:

٠  تقليص متكرر في نسب صرف الرواتب، ففي عام 2025 صرفت وزارة المالية 60% - 70% فقط من رواتب موظفيها في أشهر متعددة، مع حد أدنى بحدود 3500 شيكل، وفي بعض الأشهر (مثل نيسان 2025) لم يُصرف سوى 35٪ من الرواتب، بينما تُعتبر بقية المستحقات ذمة مالية للموظفين تُدفع لاحقًا عند توفر الإمكانات. 

هذا الواقع يتحوّل إلى ضغط اقتصادي حقيقي. حين تضاف المستحقات المتأخرة المتراكمة منذ سنوات: فإن المستحقات المتأخرة للموظفين العموميين فاقت 2.26 مليار دولار حتى نهاية تشرين الأول 2025 (7.3 مليار شيكل) بينما الديون المتراكمة للقطاع الخاص، بما يشمل الموردين والمستشفيات وشركات الأدوية وغيرهم، تجاوزت نحو 1.6 مليار دولار بنهاية النصف الأول من 2025.

  ٠  على صعيد آخر، فإن تحويل مخصصات أسرالشهداء والجرحى والأسرى من حقوق قانونية إلى برامج اجتماعية معاييرها اقتصادية ستؤثرعلى نحو 35-40 ألف أسرة فلسطينية، دون احتساب عشرات آلاف الأسرالجديدة منذ بدء حرب الإبادة الجماعية في السابع من تشرين الأول 2023 في قطاع غزة ومخيمات وقرى الضفة الغربية، والتي ما تزال متواصلة حتى يومنا هذا.

 

كما يشير الواقع الفلسطيني الى تعمق الهشاشة السياسية التي تضيف عنصرا إضافيا للتفجير: والمتصل بقرار تنظيم الانتقال في حال فراغ موقع الرئيس، الذي تجاوز سن التسعين، بقرار رئاسي فردي دون سند نظامي، يعارضه قطاع واسع من أبناء الشعب الفلسطيني، بما في ذلك المتنافسين في الطبقة السياسية. ما يعزز مخاطر الانزلاق إلى فوضى.

 

هذه الوقائع لا تشكّل مجرد خلفية سياسية أو اقتصادية، بل شرخًا في بنية الشرعية والثقة. وهي لا تُبقي المجتمع في حالة انتظار، بل تضعه تحت ضغط يومي متصاعد قد لا ينتج تلقائيا وعيا تحرريا، لكنه يفتح كسرا في الزمن السياسي لا يمكن تجاهله.

الأزمة وحدها لا تصنع مشروعًا تحرريًا، لكنها تخلق شرطه الموضوعي. أما تحويل المعاناة إلى فعل سياسي منظّم، فهو مسألة تنظيم وتأطير، لا مسألة انتظار “الجاهزية”.

 

الخوف المجتمعي: عائق أم معطى يجب احتواؤه؟

 

من المهم هنا التوقف عند مسألة الخوف التي غالبًا ما تُهمَّش في النقاشات الجذرية: الخوف من الفوضى، من فقدان الدخل، من تكرار تجارب انهيار غير محمية سياسيًا.

هذا الخوف ليس وعيا زائفا، بل خبرة اجتماعية تراكمت عبر سنوات من الانقسام والحصار والخذلان. ومن التجارب المريرة لثورات الربيع العربي، وأي مسار تحرري يتجاهله أو يستخف به، محكوم بفقدان حاضنته.

المطلوب ليس تعبئة الناس ضد مخاوفهم، بل دمج هذه المخاوف في تصور الانتقال نفسه، بوصفها عنصرا يجب التعامل معه سياسيا وليس أخلاقيا.

 

الإقليم: غياب الحاضنة أم شرط التفكير المختلف؟

 

لا خلاف على أن البيئة العربية الرسمية اليوم غير حاضنة، بل ضاغطة في كثير من الأحيان. لكن الخلاف يظهر في الاستنتاج السياسي.

تنطلق الورقة من أن المشروع التحرري الفلسطيني لم يُبْنَ تاريخيا على دعم الأنظمة، بل على استثمار التناقضات والتحولات. الجديد اليوم ليس تحسّن البيئة الرسمية، بل اتساع الفجوة بينها وبين مجتمعاتها، وصعود فاعل عالمي مدني وشعبي بات يُربك إسرائيل أخلاقيا وسياسيا.

الرهان هنا ليس على استعداء الإقليم، ولا على الارتهان له، بل على إدارة ذكية للصدام تُراكم أوراق قوة خارج الحسابات التقليدية.

 

من يُنفّذ؟ سؤال الحامل السياسي

 

يبقى سؤال الحامل السياسي هو الأكثر إلحاحا. إصلاح منظمة التحرير؟ تبنّي قوى قائمة؟ إنشاء حامل جديد

التحفّظ هنا ليس هروبا من السؤال، بل رفضا للإجابة الجاهزة.

 فالتجربة الفلسطينية تُظهر أن تغيير الأطر دون تغيير الوظائف لا ينتج تحررًا، بل سلطة جديدة بوظيفة قديمة.

 

الحامل السياسي، في هذا التصور، ليس نقطة بداية، بل مخرج لمسار: يتشكّل عبر إعادة تسييس المجتمع، وبناء تمثيل من القاعدة إلى القمة، لا عبر هندسة فوقية جديدة.

في هذا السياق، لا يُفهم التحفّظ على الحامل الجاهز بوصفه دعوة إلى السيولة التنظيمية، بل إلى مسار تبلور تمثيلي تدريجي. فالمبادرات المجتمعية والشبابية لا تتحول تلقائيا إلى بنى مستقرة، لكنها تملك قابلية التحول إذا ما انتقلت من الفعل الظرفي إلى الفعل المتراكم.

هذا الانتقال لا يفترض وحدة تنظيمية شاملة، بل شبكة تمثيل مرنة تقوم على:

  ٠ التنسيق لا التوحيد

  ٠ التمثيل الوظيفي لا الادعائي

  ٠ المساءلة من القاعدة لا الشرعية الرمزية فقط

 

الحامل السياسي لا يُعلن ولا يُفرَض، بل يتكوّن تدريجيًا عبر شبكة تمثيل مرنة تُختبَر بقدرتها على الصمود والتمثيل وإدارة الاختلاف.

 

القطيعة والانتقال: بين الفراغ والاستنزاف

 

الخشية من الفراغ الإداري والمعيشي خشية مشروعة. لكن من الضروري التمييز بين:

  ٠  القطيعة مع وظيفة الحكم الذاتي

  ٠  إدارة انتقالية للشأن المعيشي والخدماتي

الفراغ الحقيقي ليس ما قد ينتج عن الانتقال، بل ما ينتجه استمرار نموذج يستهلك المجتمع بلا أفق. الانتقال هنا لا يُفهم بوصفه “إدارة دولة بديلة”، بل تفكيكًا تدريجيًا لوظيفة الضبط، بالتوازي مع حماية شروط العيش، عبر:

        لامركزية الخدمات

        تحييد القطاعات الحيوية

        بناء شبكات حماية مجتمعية لا تعمل بمنطق السيادة، بل بمنطق الصمود.

هنا تجدر الإشارة إلى أن غياب “الخطة التنفيذية” لا يعني غياب تصور انتقالي، بل رفض اختزال الانتقال في نموذج إداري جاهز.

 

فالمرحلة الانتقالية، في السياق الفلسطيني، لا يمكن إدارتها بمنطق الدولة ولا بمنطق السلطة، بل بمنطق إدارة التفكك دون انهيار.

المقصود بالانتقال ليس نقل الوظائف من مؤسسة إلى أخرى، بل إعادة توزيعها اجتماعيًا: ما يمكن لامركزته لا يمركز، وما يمكن تحييده يُحيَّد، وما لا يمكن الاستغناء عنه يُدار كحالة استثناء مؤقتة.

 

المرحلة الانتقالية ليست فترة فراغ، بل مسارا غير مكتمل ومتعدد المستويات، لا يحتمل هندسة مركزية بقدر ما يتطلب تنسيقا مرنا بين الفاعلين الاجتماعيين والمهنيين.

 

اشتباك ضروري لا بديل عنه

 

هذا الحوار، بكل توتره، يعكس ما تحتاجه اللحظة الفلسطينية:

أن نكون جذريين في التشخيص دون رومانسية، وواقعيين في المسار دون أسر للواقع.

فلسنا أمام ثنائية الدفاع عن السلطة أو إسقاطها، بل أمام سؤال أعمق: كيف نعيد تعريف السياسة الفلسطينية بوصفها فعل تحرر، لا إدارة أزمة؟

هذا السؤال لا يبحث عن إجابة واحدة، ولا عن لحظة إعلان، بل عن إعادة ترتيب الأسئلة بحيث تصبح جزءا من الفعل نفسه.

فالمسار التحرري لا يُصاغ بقرار فوقي، ولا يولد دفعة واحدة، بل يتشكّل عبر اشتباك مجتمعي وسياسي تراكمي، تكون فيه الأسئلة أداة فتح، لا ذريعة تأجيل.

 

مشاركة: