يأتي مقال خالد عطية" خطاب الحسم وغياب البنية: قراءة نقدية في مقال أكرم عطا الله" في لحظة فارقة، ليس لأنها لحظة اشتداد الجدل بعد الطوفان فحسب، بل لأنها لحظة إعادة تعريف الذات الفلسطينية في ظل معركة يتجاوز لهيبها الميدان لتطال بنية الوعي نفسه.
ولعل قيمة المقال التي تستحق الإبراز، تكمن في أنّه لا ينزلق إلى جلد الذات، ولا يأخذ الموقف السهل الذي تأخذه بعض الأقلام حين تتخفّى وراء خطاب “ما بعد الواقعية” لنشر ثقافة الهزيمة، بل يتقدم إلى قلب السؤال:
من يُنتج سردية الهزيمة؟ وكيف نواجهها؟
ومن هنا، يصبح من الضروري البناء على مقال عطية وتوسيعه، ليس لإعادة شرح ما قيل، بل لفتح ما لم يُقل، وما يحتاج أن يُقال الآن، قبل أي وقت آخر.
أولا: دقّة التشخيص، ولكن أعمق: ما جرى بعد الطوفان هو انهيار الاحتلال لا المقاومة
أصاب خالد عطية حين لفت إلى أنّ كثيرا من التحليلات التي ظهرت بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر اتسمت بتسطيح بنيوي، وبتكرار مقولات جاهزة تُحمِّل المقاومة مسؤولية الإبادة والدمار، كأن الاحتلال الصهيوني مجرد قوة عبور، لا بنية استعمار استيطاني عنصري إلغائي - إحلالي. وقد أحسن في الإشارة إلى أنّ مقايسة الفعل الفلسطيني على ردة فعل الاحتلال تقع في فخّ منطقي قاتل. غير أنه من الضروري هنا تعزيز ما أشار إليه خالد بعجالة، والإضافة بوضوح:
الطوفان لم يكن خطأ استراتيجيا كما يروج البعض، بل كان أول لحظة كشف فيها الاحتلال هشاشته الوجودية منذ 1948.
1. انهارت ثقة المجتمع بالجيش والأجهزة الأمنية
• هبطت الثقة بالجيش الإسرائيلي من 88% قبل الطوفان إلى 36% فقط بعدها.
• 72 %من الإسرائيليين يعتقدون أن “الجيش غير قادر على منع حرب أخرى”.
• 68 %يرون أن الشاباك فشل “فشلا كاملا” في منع اختراق 7 تشرين الأول/أكتوبر2023.
• انكسرت عقيدة الأمن الإسرائيلية. واهتز الردع. وانكشف التفوق العسكري كمجرّد أسطورة.
2. أكبر أزمة قيادة في تاريخ إسرائيل
• 78 % يطالبون نتنياهو بالاستقالة فورا.
• 61 % يحمّلون الحكومة مسؤولية ما جرى.
• 52 %يحمّلون الجيش المسؤولية مباشرة.
3. تفكك المجتمع الإسرائيلي داخلياً
• 42 %من الإسرائيليين يفكرون بالهجرة (رقم قياسي منذ 1948).
• نسبة الانقسام بين اليمين واليسار هي الأعلى في تاريخ الدولة.
• مستوى القلق القومي وصل إلى 9.3/10 - أعلى مستوى منذ تأسيس إسرائيل عام 1948.
4. الهاجس الوجودي
• 56 %من الإسرائيليين يعتقدون أن “كيان الدولة قد لا يبقى خلال 20 عاما”. وهذا رقم مذهل غير مسبوق في الاستطلاعات الإسرائيلية.
هذه الأرقام من: معهد الديمقراطية الإسرائيلي، مركز دراسات الأمن القومي، صحيفة هآرتس، القناة 12 العبرية وCBS/YouGov.
انكشف المجتمع الإسرائيلي نفسه ككيان مذعور، لا كقوة قادرة على إدارة صراع طويل. وهذا جوهر ما لم يتجرأ كثير من المحللين على قوله:
إسرائيل هي التي انهارت، لذلك تنتقم بوحشية لم يشهدها التاريخ الإنساني قديمه وحديثه. والانتقام ليس سياسة لمن يريد البقاء في منطقة يرفضه أهلها.
كما أن نظام الحداثة المادي العنصري المهيمن منذ قرون، هو الذي بدأ بالتصدع، ولهذا يشن حربا عالمية على الجيب الغزاوي المحاصر من عدوه وأهله وذويه والعالم أجمع، ليس لأنه خطير، بل لأنه عراه أمام شعوبه، وأسقط الأقنعه التي مكنته من تسيد العالم، وأفقده الشرعيه الأخلاقية أثناء صراع البقاء، كما لم يفعل أحد، وأغلب الظن أنه لم يقصد ذلك، لكنه فعله.
ثانيا: التحولات الوجودية في الوعي، الغائب الأكبر في معظم القراءات
أشار خالد عطية في مقاله إلى بعض التحولات، غير أن حجم الظاهرة أكبر بكثير من مجرد تغيرات في المزاج العام. ما حدث هو انفجار في الوعي الجمعي على مستوى فلسطيني - عربي - إسلامي -عالمي.
على الصعيد الفلسطيني
لم يعد الفلسطيني يرى نفسه ضحية فقط، صار يرى نفسه مبادِرا، فاعلا، قادرا على نقل المعركة إلى قلب العدو.
هذه ليست مسألة نفسية، بل تغيّر في بنية الوعي السياسي.
على الصعيد العربي والإسلامي
تفككت سردية “الجيش الذي لا يقهر“بشكل غير مسبوق. تراجعت هيبة النموذج الغربي الذي لا راد لقضائه، وعاد الناس إلى الإيمان والثقة بإمكانية التحرّر، فإذا كان قطاع غزة متناهي الصغر والمحاصر براً وبحرا وجوا على مدى 16 عام، والخارج من خمسة حروب مدمرة متتالية، قادر على اختراق الدولة النووية المنيعة، فكيف يكون الحال لو فعلت البلاد العربية الإسلامية الممتدة إرادة شعوبها التحررية؟!
على الصعيد العالمي
لم يكن الطوفان في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 حدثا فلسطينيا داخليا، بل شرارة أطلقت أكبر حركة تضامن إنساني في القرن الحادي والعشرين. فخلال التسعين يوما الأولى فقط بعد الطوفان، خرج أكثر من 78 مليون متظاهر في شوارع 120 دولة، وسُجّلت 5,200 فعالية احتجاجية، في رقم لم تشهد له قضايا العالم مثيلا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية - حامية إسرائيل - تحوّلت الجامعات إلى ساحة تحررية، حيث نُظم 340 اعتصاما في شهر واحد، وارتفعت نسبة الشباب بين 18- 29 عاما الذين يرون إسرائيل دولة فصل عنصري إلى 60%. وتضاعفت نسبة الأمريكيين الذين يرون إسرائيل “ترتكب إبادة جماعية” من 14% قبل الطوفان إلى 38% في نهاية 2024
وفي أوروبا شهدت برلين، المثقلة بعقدة الذنب، وحدها أكثر من 110 مظاهرات خلال الثلاثة أشهر الأولى بعد الطوفان.
وفي لندن - عاصمة الدولة التي أصدرت وعد بلفور قبل أكثر من قرن، وتولت الانتداب المؤقت( 1920-1948) على فلسطين، لتهيئة الظروف الموضوعية: السياسية والعسكرية والجغرافية والديموغرافية والقانونية والإدارية لاستبدال فلسطين بإسرائيل، واستبدال شعبها العربي الفلسطيني بالمستوطنين اليهود الأوروبيين المقتلعين بالقوة من مواطنهم الأوروبية - جرت تظاهرة مليونية لإدانة الإبادة في قطاع غزة. ونظمت في فرنسا أكبر مظاهرة مؤيدة لفلسطين منذ 1968 (550 ألف متظاهر). وقفزت نسب التعاطف مع الفلسطينيين في إسبانيا وإيطاليا فوق 65%.
بفعل الطوفان تهاوت صورة إسرائيل الدولية، واعترفت 160 دولة في العالم بحق الشعب الفلسطيني في تقريرالمصير، وبوجوب قيام دولة فلسطينية، كمدخل لتحقيق الأمن والسلام في المنطقة وعموم العالم.
(هذه الأرقام مستخلصة من تقارير الصحافة العالمية (BBC، الغارديان، واشنطن بوست، DW، نيويورك تايمز) ومن قواعد بيانات المسيرات الدولية).
وانتقل التضامن مع فلسطين من “ظاهرة أخلاقية” إلى حركة راديكالية عالمية ترى في فلسطين مرآة للتحرّر الإنساني كله.
وعليه، فإن إغفال أي تحليل موضوعي لهذه التحولات يشبه الحديث عن زلزال بقوة 8 درجات بمقياس ريختر، دون الاعتراف باهتزاز الأرض.
ثالثا: ما بعد السابع من أكتوبر، التمرّد على النهج الإخواني التقليدي
هنا يقدّم عطية في مقاله ملاحظة لامعة، لكنها تحتاج إلى توسيع: فما جرى في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 لم يكن عملية عسكرية فقط، بل انقلاب على الإرث السياسي للإخوان المسلمين. فحركة حماس الإخوانية التي طالما قادها خطاب “التدرّج”
و” التسويات” و” المهادنة” في سياق علاقتها بالغرب والاحتلال، وجدت نفسها - بقرار جناحها المقاوم - تدخل مرحلة جديدة:
• مرحلة تُعرّف ذاتها بالتحرير لا بالإصلاح.
• بالحسم لا بالمناورة.
• بالمواجهة لا بالوساطة.
وهذا تحوّل تاريخي يُحسب للمقاومة في قطاع غزة، لا ضدها. لقد تحولت الحركة من “تنظيم إخواني” إلى فصيل وطني تحرّري، وانتقلت من مربّعات الأيديولوجيا إلى ساحات الصراع الفعلي.
رابعا: خطأ حماس ليس في مرجعيتها الفكرية الإسلامية، بل في انغماسها في السلطة.
وقد المح عطية إلى هذه النقطة، وأرى ضرورة توسعتها، لأن هذا هو جوهر النقاش.
1. المشكلة ليست في الإسلام
الإسلام في جذره رسالة تحرّر، لا طقوس. ثورة أخلاقية ضد الظلم، وليست مجرد دعوة روحية. والاعتماد على مرجعية تحررية لا يمكن - من حيث المبدأ - أن يكون خطأ.
2. الخطأ الحقيقي الذي ارتكبته حماس: الجمع بين السلطة والمقاومة
سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني التي نشأت بعد أوسلو لا تملك سيادة، ولا أرضا، ولا حدودا، ولا اقتصادا، ولا أدوات حكم حقيقية. هي سلطة تحت الاحتلال، وليست سلطة على الاحتلال. وكل حركة مقاومة تدخل هذا الفضاء ستصاب بالتناقض البنيوي ذاته:
عليك أن تُقاوم. لكن عليك أن “تُدير” السلطة التي وُجدت أصلا لنزع شرعية المقاومة. يزداد الأمر تعقيدا في الحالة الفلسطينية الفريدة، غير المسبوقة في التاريخ، سلطة تحت احتلال استيطاني عنصري إلغائي إحلالي.
وهذا ما حاولت حركة فتح تجربته في انتفاضة الأقصى وفشلت، ودفع عرفات وآلاف الشهداء والجرحى والأسرى حياتهم ثمنا لذلك.
وعوضا عن أن يتعظ القوم، انقلب النظام السياسي الفلسطيني المقاوم على ذاته، وارتضى الانخراط في سلطة وظيفية، ما أحدث انقساما بنيويا فلسطينيا داخل الوطن وخارجه، بين طبقة سياسية نخبوية حسمت خياراتها وفقا لحسابات المصالح الضيقة المرتبطة بالاحتلال وحماته، وبين الغالبية الساحقة من أبناء الشعب الفلسطيني المحاصر بين تطلعاته الوطنية التحررية، وبين مستلزمات العيش تحت احتلال استعماري استيطاني إحلالي. تسبب في رفع أعباء الصمود، وأضعف مناعة الشعب والوطن. وهو ما لم تتعظ به حماس، فكررت ذات التجربة في قطاع غزة حين انفردت بالسلطة عام 2007
هذه المفارقة في تكرار خطيئة الجمع بين السلطة والمقاومة هي التي أنتجت العبء النفسي والسياسي الذي تتحملته حماس، وليس مرجعيتها الفكريه الإسلامية.
خامسا: مواجهة ثقافة الهزيمة
المعركة الحقيقية التي تناولها خالد عطية ليست فقط في نقده السياسي، بل في محاولته المسؤولة لتفكيك بنية الهزيمة الثقافية التي تتسلل إلى الوعي عبر:
• خطاب السلطة الذي يحمّل المقاومة مسؤولية الإبادة والتدمير.
• خطاب بعض المثقفين الذي يتهرب من مسؤولية مراجعة الذات ويلوم الضحية ويروّج للاستسلام باعتباره “واقعية سياسية”.
• خطاب الأنظمة العربية التي تهادن الاحتلال وتستثمر في بقائه.
• خطاب غربي يريد تجريد الشعب الفلسطيني من حقه المشروع في مقاومة الاحتلال، ويساومه على مقايضة احتياجاته المعيشية بحقوقه الوطنية بحجة “الحكمة”.
وهنا، يصبح واجبا ومسؤولية على المثقفين توسيع الطرح ليصبح جزءا من مشروع أكبر: بناء ثقافة مقاومة تستعيد تعريف النصر والهزيمة:
النصر ليس عدم دفع الثمن. النصر هو القدرة على تغيير قواعد الصراع. والهزيمة ليست سقوط الأبراج. الهزيمة هي سقوط الإرادة.
وما حدث بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر هو العكس تماما:
إرادة صاعدة، واحتلال يتآكل.
النقد المقاوم، لا النقد المستسلم
إن ما نحتاجه اليوم ليس مزيدا من المواعظ الأخلاقية، ولا بيانات اللوم، بل قدرة على تفكيك الهزيمة دون تبنّي لغتها، وعلى قراءة الفعل الفلسطيني داخل شروطه لا خارجها.
فالهزيمة لا تتحوّل إلى مصير إلا حين نتبناها كخطاب، ونردّد مفاهيمها كما لو كانت حقائق. وما فعله المقال الذي ردّ عليه خالد عطية باقتدار، وسواء قصد أكرم عطالله ما قاله أم لم يقصد، فقد منح سردية الاحتلال لغتها المفضّلة: لغة التبسيط، ولغة الذنب، ولغة نزع السياسة عن العدو وردّها إلى الضحية.
إن نقد هذه اللغة ليس ترفا فكريا، بل ضرورة وجودية: ضرورة لحماية الوعي الفلسطيني من الانزلاق إلى تديين الهزيمة، أو تحويلها إلى معيار لقياس جدوى المقاومة. فالتاريخ لا يُقرأ من لحظات الانكسار، بل من خطوطها الطويلة، ومن التحولات التي تتجاوز القدرة على الرؤية اللحظية. وما بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر ليس نهاية حكاية، بل بداية فصل جديد في وعي الفلسطيني والعالم معا.
لهذا، فإن واجب اللحظة ليس إعلان البراءة من الفعل المقاوم، ولا كتابة اعترافات زمن الارتباك، بل استعادة البوصلة:
إعادة مركز الصراع إلى مكانه الطبيعي - الاستعمار -، وإعادة الفعل الفلسطيني إلى سياقه الحقيقي - الوطن لا الدويلة الوظيفية -، وإعادة الوعي إلى مهمته الأولى: إنتاج المعنى لا استهلاك الرواية التي يصوغها الآخر.
وعندما يستعيد الفكر شجاعته، ويتحرّر من ضغط اللحظة، يصبح ممكنا أن نرى:
أن الهزيمة ليست قدرا، وأن الاستعمار ليس أبديا، وأن الثورة - بأخطائها وآلامها - ما تزال السردية الوحيدة التي تمنح الفلسطيني مكانه في التاريخ، لا على هامشه.
فالوعي المقاوم اليوم لا يكتفي بالدفاع عن الأرض والحقوق، بل أصبح محورا لتفاعل عالمي يحدّد موازين القوة القادمة، ويعيد رسم الآفاق العربية والإقليمية والدولية. ومسؤولية كل فلسطيني وعربي ومؤمن بالحرية أن يكون جزءا من هذه الحركة التي تصنع التاريخ، لا مجرد مراقب له.
