لا تُقاس خطورة الأحداث السياسية بما يقع فيها من عنف فقط، بل بالطريقة التي يُعاد عبرها ترميز هذا العنف لغويا وإعلاميا. كما يتحول من واقعة جنائية إلى مورد سياسي يعاد توظيفه في هندسة الوعي الجمعي. في هذا الإطار، لا يصبح الدم نهاية المأساة، بل بدايتها الخطابية.
تكشف الحوادث التي تطال مواطنين يهود خصوصا، ومنها الجريمة الأخيرة في أستراليا، عن نمط متكرر في إدارة الخطاب السياسي. إذ يُستدعى الحدث بسرعة إلى فضاء الأمننة، حيث يُعاد تعريفه كتهديد وجودي لجماعة دينية بعينها، لا كجريمة ضد مواطنين متساوين أمام القانون. وفقا لمنهجية مدرسة كوبنهاغن في الأمننة، كما يعرّفها أولي ويفر بأنها «فعل لغوي يتم من خلاله تحويل قضية ما إلى تهديد وجودي يستدعي إجراءات استثنائية».
في هذا السياق، يُلاحظ أن الخطاب السائد لا يتوقف عند حماية الضحايا أو مساءلة الجناة، بل يتجه إلى توظيف الحدث لإعادة تنشيط سردية “معاداة السامية” بوصفها أداة تعبئة سياسية. تُستخدم لربط يهود العالم بمشروع سياسي فوق-وطني، وتقديم “إسرائيل” كملاذ وحيد في عالم معاد.
هنا، تعمل اللغة كآلية لإعادة إنتاج الخوف وتحويله إلى هوية جامعة.
في هذا الإطار، يصبح الدم - كما تكشف التجارب التاريخية والسياسية - وسيطا لإعادة هندسة الوعي، وليس مجرد نتيجة للعنف.
ويلاحظ أن تصاعد توظيف خطاب معاداة السامية، يتزامن مع تراجع الدعم الدولي لسياسات “إسرائيل”، التي ترى في كل الأغيار أعداء، ما لم يدعموا ممارساتها الإبادية. ما يشير إلى وظيفة سياسية للخطاب تتجاوز حماية الجماعات إلى إعادة شدّ الولاءات وتوجيه الهجرة والاصطفاف. وهنا، تُستبدل اللغة الحقوقية بلغة النجاة، وتُستبدل المواطنة بالخوف.
وهنا يكتسب «الهولوكوست» بعدا مركزيا: فقد استخدم الدم اليهودي كأداة سياسية لتبرير المشروع الاستعماري الغربي الصهيوني الاستيطاني الإحلالي، ولتوجيه الولاءات اليهودية. وقد أشار عديد المفكرين اليهود إلى استثمار الدم اليهودي في خدمة المشروع الصهيوني، إذ حذرت حنا آرندت مبكرا من تحويل المأساة إلى «رأسمال أخلاقي يُستخدم لتبرير سياسات الهيمنة بدل منع تكرارها». وأشار إيلان بابيه إلى أن «التاريخ في إسرائيل يُكتب بوصفه امتدادا للمشروع الاستيطاني لا مراجعة نقدية له». كما أوضح آفي شلايم أن «تحويل إسرائيل إلى دولة ضحية دائمة، كان شرطا لبقائها خارج أي مساءلة أخلاقية أو قانونية». وسلط ميكو بيليد الضوء على أن «خطاب الضحية الدائمة يُستخدم لإسكات أي مساءلة سياسية باسم الخوف الوجودي».
مثال حي على التوظيف السياسي للدم اليهودي لإعادة هندسة الولاءات نجده في خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بعد الجريمة الأخيرة في أستراليا. ولم يتوقف عند حقيقة أن من استبسل وخاطر بحياته لإيقاف المجرم والدفاع عن يهود أستراليا مواطن أسترالي مسلم من أصل سوري. فسارع بعد دقائق من الحادث إلى الإعلان عن التزام إسرائيل بحماية يهود استراليا المهددين، وعموم اليهود في العالم، وحمل الحكومة الأسترالية مسؤولية تنامي معاداة السامية، بسبب ما وصفه بتساهلها مع المظاهرات الشعبية العارمة التي شارك بها يهود أستراليا، واعترافها بالدولة الفلسطينية.
وكان قد تذرع قبل أشهر بحماية دروز سوريا لتبرير احتلاله جنوب سوريا،
متجاهلا فشل إسرائيل في منع هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 في عقر داره. ومسؤوليتها المباشرة في ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وجرائم الحرب ضد الشعب الفلسطيني باسم اليهود، واتهام كل من يعارض سلوكها الإجرامي من غير اليهود بمعاداة السامية، بل واتهام اليهود المعادين للصهيونية بأنهم “كارهون لأنفسهم”.
هذا المثال يعكس بوضوح كيف تُستغل الأحداث الدموية واللغة لتوجيه الولاءات، وتحويل اللغة والمواطنة والدين والهوية إلى أدوات سياسية.
وفقا لتحليل بيير بورديو، «اللغة ليست مجرد وسيلة تواصل، بل أداة سلطة تنتج الواقع الاجتماعي بقدر ما تصفه». إذ لا تكتفي وسائل الإعلام بوصف الأحداث، بل تُعيد تصنيف المواطنين على أساس هوياتي عند الإشارة إلى «الجاليات اليهودية والإسلامية في الغرب، والمسيحية في الشرق» بدل «المواطنين». وبهذا، تُنزع المواطنة الرمزية، ويُعاد تعريف الفرد بوصفه عضوا في جماعة قابلة للإدارة والمحاسبة الجماعية، لا مواطنا متساوي الحقوق.
يتقاطع هذا التحليل مع رؤية تي. هـ. مارشال، الذي يرى أن المواطنة «علاقة قانونية قائمة على مساواة الأفراد في الحقوق، لا على انتماءاتهم الأولية» وأن ربط الحقوق بالانتماء الديني أو العرقي، بدل الانتماء القانوني، يقوض الأساس المدني للدولة الحديثة.
ويكمل هذا ما بينه طلال أسد أن الدولة الحديثة، «لا تُقصي الدين، بل تعيد تشكيله ليصبح قابلا للإدارة والضبط».
في هذا السياق، يتحول الخطاب الإعلامي والسياسي إلى أداة مزدوجة. تنزع المواطنة الفردية وتعيد إنتاجها جماعيا، بينما يُستدعى الدين لضبط الجماعات وتوجيه الولاءات.
وبهذا، يُعاد إنتاج ثنائية “نحن/هم” داخل الدولة نفسها، فيتحول المواطن إلى “آخر داخلي”. وتُدار التعددية ليس باعتبارها ثراء مدنيا، بل بوصفها خطرا أمنيا.
الدم واللغة: الجانب العملي
الأحداث الدموية - كما يدلل التاريخ - غالبا ما توظف لخدمة الأهداف السياسية للقوى الإمبريالية المهيمنة، عبر الخطاب الإعلامي الموجه.
حيث لا يركز على الجريمة نفسها، بقدر ما يوظفها لتشويه الوعي الجمعي.
هذا التوظيف يبين كيف تتحول اللغة في نظام الحداثة المادي العنصري المهيمن من أداة حقوق إلى أداة نجاة وخوف.
إن الخطر الحقيقي لا يكمن في الجريمة وحدها، بل في قبول اللغة التي تُعيد إنتاجها سياسيا لادامة الهيمنة.
فحين تتحول المواطنة إلى امتياز، والدين إلى أداة، والدم إلى رسالة ترويض وإخضاع، تكون الدولة الحديثة قد فشلت في القيام بوظيفتها كحيز مدني جامع. وانزلقت لتكون أداة لإدامة الهيمنة عبر إدارة السكان بالتصنيف والهوية، وليست نظاما إداريا قائما على العدالة والمساواة.
من هنا، يصبح تحرير اللغة والدين من الاستلاب شرطا لتحرير الوعي الإنساني، ومدخلا لإعادة بناء فهم الإنسان لحقوقه ولمجتمعه، وفهم السياسة الدولية لا كإدارة للأديان والدماء، بل كمسألة عدالة إنسانية ومواطنة متساوية.
