الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   26 تشرين الثاني 2025

| | |
الطوفان الفلسطيني: إعادة تشكيل الزمن والوجود في عصر الحداثة المادية
غانية ملحيس

من وحي خربشات عادل الأسطة  في نهاية مقاله حول الصحفية اليمينية اليهودية “حكاياتنا طويلة، وطويلة. أمس غرقت الخيام وعاش أهل قطاع غزة طوفانين: طوفان الأقصى وطوفان نوح - 26/11/2025”.

أولا: الطوفان كرمز تأسيسي عبر التاريخ

منذ بدايات الوعي البشري شكّلت أسطورة الطوفان أحد أكثر الرموز رسوخا في المخيال الإنساني. ففي حضارات الرافدين، السومرية والبابلية، كان الطوفان قرارا كونيا لإعادة ترتيب العالم بعد فوضى البشر - ليس عقاباً أخلاقيا بالضرورة، بل محاولة لاستعادة توازن كوني مختل، كما تلمّح “ملحمة جلجامش” ونصوص “أثر-هاسيس”.

في الديانات الأقدم زمنيا كالهندوسية، كما يشرح ميرتشيا إلياد في كتابه أسطورة العودة الأبدية، يتخذ الطوفان طابعا دوريا يعيد الكون إلى بدايته في دورة خلق لا نهائية.

أما في الديانات الإبراهيمية، فقد أصبح الطوفان حدثا أخلاقيا بامتياز، اختبارا لإمكان استمرار البشرية، وإعادة تأسيس لعلاقة الإنسان بالآلهة عبر “العهد” الذي يمثّله قوس قزح. 

في كل هذه النماذج يتكرّر منطق واحد:

•     محو العالم القديم،

•     تأسيس عالم جديد وفق مبدأ (كوني، أخلاقي، مقدس)،

•     ومنح الناجين شرعية وجودية تؤهلهم لبدء زمن آخر.

 

الطوفان هنا ليس حدثا فحسب، بل آلية لفهم إعادة البناء: بناء الزمن، وبناء السلطة، وبناء الوجود الإنساني ذاته.

 

ثانيا: الطوفان في فلسفة التاريخ: من الأسطورة إلى أداة تفسير

 

عند الانتقال من عالم الأسطورة إلى عالم الفلسفة، يصبح الطوفان نموذجاً لفهم التحوّلات الكبرى التي تعيد صياغة البشرية:

•     هيغل، في جدليته الشهيرة، يرى أنّ محو العالم القديم شرط ضروري في صيرورة الروح نحو وعي أعلى. الطوفان - بمعناه الوجودي- ليس عقاباً، بل “نفي” يفتح الطريق لتأسيس جديد.

•     ميرتشيا إلياد يعيدنا إلى فكرة الزمن المقدس (illud tempus), حيث يُعاد خلق العالم عبر العودة إلى الأصل الأول. الطوفان، إذن، ليس نهاية، بل عودة إلى نقطة البدء لإفساح مجال لتجدّد المعنى.

•     حنّة أرندت تقدّم منظورا آخر: الطوفان انهيار للعالم المشترك، أي المجال العام الذي يمنح البشر القدرة على الظهور والفعل. لكنه أيضا لحظة تتيح للإنسان أن يبدأ من جديد - ما تسميه الولادة الجديدة (Natality)، القدرة البشرية الأصيلة على الإبداع وسط الركام.

 

هكذا، في الفلسفة كما في الأسطورة، يظهر الطوفان كرمز لإعادة التأسيس: تأسيس المعنى، وتأسيس الزمن، وتأسيس الوجود الإنساني في مواجهة القوة.

 

ثالثا: الحداثة المادية: الطوفان الذي لا يحمل خلاصا

 

مع صعود الحداثة المادية - التقنية، العسكرية، الاقتصادية - ظهر نوع جديد من الطوفان: طوفان يمحو المعنى ويعيد تشكيل العالم بلا عهد أو خلاص.

 

القوة التقنية العمياء، الأسلحة الذكية، تدمير البيئة، العولمة الاقتصادية، والذهن الأداتي (ماكس فيبر، أدورنو وهوركهايمر)، كلها تشكّل طوفاناً حديثاً يجتاح المجتمعات:

•     يتحوّل الإنسان إلى مادة إنتاج،

•     تصبح الأرض مورداً مستهلكاً،

•     يتحوّل الزمن إلى تسارع دائم يمنع التأمل والبناء،

•     ويصبح العالم فضاءً تهيمن عليه أدوات السيطرة.

 

هذا الطوفان الحداثي يمحو لكنه لا يؤسّس، ويدمّر لكنه لا يقدّم عهدا جديدا. إنه، بتعبير زيغمونت باومان، “حداثة سائلة” تبتلع المعنى وتترك الإنسان معلّقاً فوق هاوية الزمن.

 

رابعا: فلسطين: التجسيد الحي للطوفان الحداثي

 

الحالة الفلسطينية ليست حدثا منفصلاً، بل مرآة للحداثة المادية في أقصى تجلياتها في القرن الحادي والعشرين.

 

1. الطوفان العسكري - التقني

 

الحصار، القصف الجوي، الحرب الذكية، التجويع، والتحكم في الموارد والمعابر - كلها أدوات حداثية تصنع طوفانا ماديا يغرق الأرض والإنسان.

 

2. الطوفان السياسي - الاجتماعي

 

تدمير المدن والقرى، تفكيك النسيج الاجتماعي، استهداف المؤسسات الصحية والتعليمية والسياسية والإعلامية، ودور العبادة، والمواقع الأثرية - كلها تجسيد لما وصفته حنّة أرندت بانهيار “العالم المشترك”، أي انكسار المجال الذي يعيش فيه البشر معا.

 

3. الطوفان الزمني - الوجودي

 

الفلسطيني يعيش زمنين متوازيين:

•     زمن الاحتلال المستمر الذي يلتهم الماضي،

•     زمن المقاومة المستمرة الذي يفتّح ممراً نحو المستقبل.

 

هذا الازدواج يعكس جوهر فكرة الطوفان كما تتكرر عبر الأساطير: محو القديم وإعادة تعريف الممكن. ومن قلب هذا الزمن المتكسّر تظهر الولادة الجديدة، قدرة الفلسطيني على البقاء والصمود وإعادة تأسيس المعنى رغم الخراب.

 

خامسا: الإبادة كآلية تأسيسية في الحداثة المادية

 

تحليل الحالة الفلسطينية يكشف ثلاث حقائق كبرى:

 

أ. الحداثة المادية ليست انحرافا، بل نسقا ينتج العنف

القوة التقنية والهيمنة العسكرية ليست استثناء، بل جزء من بنية الحداثة ذاتها - في التحليل الفلسفي لوَلتر بنيامين (العنف والقانون).

 

ب. الطوفان المعاصر يعيد تشكيل الزمن

يخلق “زمن طوارئ” تُفرض فيه قواعد جديدة على المجتمعات وتُعاد صياغة الوجود الإنساني بالقوة.

 

ج. المقاومة هي القدرة التأسيسية

من قلب الطوفان ينهض الإنسان كفاعل سياسي يعيد بناء المعنى، كما تصوّر حنّة أرندت حين تتحدث عن الميلاد السياسي الذي يصنعه الفعل.

 

سادسا: فلسطين والعالم: تصدّعات الطوفان وبشائر الزمن الجديد

 

فالطوفان، بطبيعته، لا يبقى محليا، موجاته تمتد لتصل مراكز الحداثة، فتكشف عن هشاشة بنيتها الفكرية والسياسية وعقلها الأداتي، وتظهر شقوقا عميقة في بنيتها الداخلية.

 

خروج ملايين البشر في 18/10/2025 تحت شعار “لا ملوك”، وتراجع الشرعية السياسية، وخطاب نتنياهو في قاعة شبه فارغة في الأمم المتحدة (26/9/2025)، والاعترافات الرمزية المتتابعة بالدولة الفلسطينية (22/9/2025)، وظواهر شخصيات كزهران ممداني وتاكر كارلسون وكاندي أوينز، والمؤتمر اليهودي الأول لمناهضة الصهيونية (فيينا، 13–15/6/2025) - كلها شروخ في جدار الحداثة المادية، ومؤشرات على أن زمنا جديدا يتشكّل رغم الخراب.

 

تماماً كما قال عادل الأسطة: “حكاياتنا طويلة.”

 

وطوفان الأقصى فصل جديد في الحكاية الطويلة للإنسانية، يمهّد الطريق لطوفانات وعي ومعنى، ليؤكد أن الإنسان مهما كان الألم يصنع التاريخ، ويتقدّم إلى الأمام.

 

مشاركة: