نظرا لطول هذا المقال البحثي، أقدّم ملخصا تنفيذيا يسهّل على القارئ الفلسطيني والعربي الإحاطة بمحاوره الرئيسة ورسالته، تمهيدا لعرض النص الكامل لاحقا.
ملخص تنفيذي
التعليم حين يفقد روحه… أزمة المعنى والهوية
لقد تحوّل التعليم من رحلة إنسانية لاكتشاف الذات والمعرفة إلى جهاز تقني ومؤسسي يركز على الامتحانات والمنافسة، متجاهلا المعنى والحرية والإبداع. هذا التحوّل لم يكن مجرد ضعف إداري، بل نتيجة تحولات تاريخية وبنيوية عميقة، واستلاب معرفي ناجم عن الهيمنة الحداثية، وسيطرة أجندات خارجية على المناهج.
السؤال المحوري: هل نريد إنتاج أشخاص ينجحون في الامتحان فقط، أم أفرادا قادرين على التفكير النقدي، ومؤهلين لحماية بلادهم والنهوض بها، والمشاركة الفاعلة في المجتمع؟
1. التحولات التاريخية في التعليم
• من جماعة معرفة إلى مؤسسة تعليمية: التعليم كان في البداية تجربة مجتمعية وروحية، ثم تحول مع الدولة الحديثة إلى أداة لإنتاج الطاعة والانضباط الاجتماعي.
• الثورة الصناعية والتشييء التعليمي: المعرفة صارت سلعة، والطلاب مستهلكين لها، والمدرسة سوقا مغلقا، يحكمه التنافس والندرة.
• صعود النيوليبرالية: التعليم أصبح سباقا على الامتيازات، والشهادات حكرا على القادرين، مع ضياع جوهر التعلم الإنساني.
نتيجة: إنتاج “مواطن موظف” قابل للتكيف، بعيد عن التفكير النقدي والوعي السياسي والاجتماعي، مع تعزيز التبعية للمعايير الغربية.
2. النقد البنيوي للتعليم
• باولو فرييري: التعليم الإيداعي يخلق تبعية، التعليم التحرري يحرر وعي المتعلم ويشجعه على التفكير والنقد والإبداع.
• جون ديوي: التعليم تجربة حياتية مرتبطة بالواقع، انفصال المدرسة عن المجتمع يغيب الطالب عن هويته الثقافية والاجتماعية.
• إيفان إليتش: المدرسة الحديثة مؤسسة احتكارية للمعرفة، تنتج التبعية بدل التفكير الحر.
التعليم ليس محايدا، بل أداة لإعادة إنتاج السلطة، والهيمنة المعرفية والسياسية.
3. الاستلاب المعرفي واستعمار المناهج
• في العالم العربي والإسلامي: اعتماد المناهج الغربية يفرض قيما ومعايير لا تتوافق مع الهوية المحلية، ويعزز الهيمنة المعرفية.
• في فلسطين: المناهج الفلسطينية تتعرض لضغوط إسرائيلية وأمريكية لتغيير التاريخ والجغرافيا، وتقييد وعي الطلاب بالقضية الوطنية، وتحويل المدارس إلى أدوات للسيطرة على الولاء والمعرفة.
الأثر: اغتراب الطلاب عن هويتهم الوطنية والثقافية، وإنتاج جيل يتكيف مع النظام الغربي المهيمن، بدلا من القدرة على التحرر والمقاومة.
4. نحو سيادة معرفية ومناهج تحررية
أ. استعادة السيادة على المعرفة
• تطوير محتوى المناهج وفق القيم الحضارية والثقافية المحلية.
• حماية التعليم من التدخلات السياسية والأيديولوجية الخارجية.
ب. مناهج تحررية ونقدية
• ربط المعرفة بالهوية الحضارية والإنسانية والخبرة الحياتية.
• تشجيع التفكير النقدي، والتحليل، والمناقشة، والمساءلة.
• منح المعلم دور الميسر وليس الحارس، وتعزيز المشاركة المجتمعية.
ج. التطبيق في فلسطين والعالم العربي
• مراجعة المناهج المستنسخة من الخارج وتكييفها مع الهوية الوطنية والقومية.
• تطوير كتب تعليمية تعكس التاريخ الوطني والمقاومة.
• مواجهة الضغوط الدولية والإسرائيلية عبر لجان وطنية مستقلة.
د. النتائج المتوقعة
• تعزيز الوعي الوطني والثقافي للطلاب.
• إنتاج جيل قادر على المشاركة، والمساءلة، وتحدي الهيمنة المعرفية والسياسية.
• إعادة التعليم كفضاء للحرية والوعي والإبداع، وليس مجرد امتحان ودرجة.
5. الاستنتاجات والتوصيات
أ. الاستنتاجات الرئيسية
• التعليم فقد جوهره الإنساني وأصبح أداة لإعادة إنتاج السلطة والتبعية.
• الاستلاب المعرفي يعزز الهيمنة ويقيّد التفكير والوعي الوطني.
• البدائل ممكنة عبر مشروع وطني تحرري، يدمج الإصلاح البنيوي: السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والتربوي.
ب. التوصيات الاستراتيجية
1. بناء الإنسان المنتمي – المواطن الصالح: تعزيز السيادة على المناهج، دمج التاريخ والثقافة والهوية، إنشاء لجان وطنية مستقلة.
2. تعليم نقدي وتحرري: تصميم مناهج تشجع على التفكير والسؤال والمناقشة، ربط التعليم بالواقع الاجتماعي، التركيز على التفكير النقدي والإبداعي.
3. تمكين المعلم والطالب: تدريب المعلمين، إشراك الطلاب والأسرة والمجتمع، منح المعلم استقلالية مهنية.
4. توازن المعرفة والقيم: تطوير منهج متكامل يوازن بين التعليم والمعنى، وبين المعرفة الأكاديمية والقيم المحلية، قياس النجاح وفق التفكير النقدي والمشاركة المجتمعية، وليس الامتحانات فقط.
السؤال الرئيس: هل نريد أشخاصا ينجحون في الامتحان، أم مواطنين مؤهلين لحماية الوطن وتنمية المجتمع والمشاركة الفاعلة؟ الإجابة تحدد مستقبل فلسطين والأمة.
المقال الكامل
التعليم حين يفقد روحه… من نقد التحوّل التاريخي إلى كشف الاستلاب المعرفي
في مقاله الملفت «التعليم حين يفقد روحه: من رحلة لاكتشاف المعرفة إلى سباق لعبور ورقة الامتحان» يتناول بشير السرطاوي موضوعا بالغ الأهمية، يلعب دورا رئيسيا في تقدم الأمم كما في تخلفها، ويعرض رؤية فلسفية تربوية متقدّمة لاستعادة التعليم لمعناه، حيث يقول: «أزمة التعليم ليست فقط في المناهج ولا في الامتحانات، بل في فلسفة المعنى».
يسعى هذا المقال إلى استكمال طرح السرطاوي من خلال تحليل السياق البنيوي الأوسع للتحول التاريخي للتعليم، واستحضار نقد فرييري وديوي وإليتش، وفحص آثار استنساخ المناهج الأجنبية في العالم العربي - الإسلامي، وصولا إلى الحالة الفلسطينية، حيث تمتثل السلطة الفلسطينية لشروط الولايات المتحدة الأمريكية والغرب لبدء مسار «قد يفضي إلى دولة فلسطينية مجزأة منزوعة السيادة وفق القرار الدولي رقم 2803»، وتشرع فعليا في تعديل المناهج لإعادة تشكيل الوعي الوطني الفلسطيني. وهذا يستدعي اليقظة الوطنية والقومية الكاملة، إذ ما يُصنع اليوم سيقيد المستقبل لعقود طويلة.
لقد شكّل التحوّل التاريخي في بنية التعليم منذ القرن التاسع عشر نتاجا لتغيّرعميق في علاقة المعرفة بالسلطة، إذ انتقلت المدرسة من كونها فضاء محليا للمعرفة والخبرة إلى جهاز إداري - أيديولوجي يُعاد عبره إنتاج النظام السياسي والاقتصادي العالمي المهيمن.
هذا التحوّل، الذي تبلور مع صعود الدولة القومية والرأسمالية الصناعية ثم النيوليبرالية لاحقا، فتح الباب لهيمنة معرفية واسعة جعلت من المناهج التعليمية أداة من أدوات السيطرة.
هذا النوع من الهيمنة لا يفرض السيطرة عبر الجيوش، بل عبر إعادة تعريف الطفل: من يكون؟ ماذا يتعلّم؟ وكيف يفسّر العالم؟ وهذا هو جوهر “الاستعمار المعرفي”: تحويل المناهج إلى وسيط لإعادة إنتاج رواية المنتصر، بحيث يصبح العقل نفسه - وليس الأرض فقط - ميدان الصراع.
من هنا، يواجه التعليم العربي والفلسطيني سؤالًا وجوديا وليس تربويا فقط: هل الهدف إدماج الأجيال في منظومة حداثية مادية عالمية تُعيد صياغة الوعي والهوية، أم بناء تعليم قادر على إنتاج سيادة معرفية، ووعي مقاوم يسعى للتحرر ولا يقبل الخضوع للنظام المسيطر؟
أولا: التحوّل التاريخي في بنية التعليم - كيف فقد التعليم “روحه”؟
التعليم، في جوهره، ممارسة إنسانية تتجاوز كونه مجرد وسيلة لنقل المعرفة. في بداياته، كان التعليم رحلة لاكتشاف الذات والعالم، يثير الفضول ويشجع على التفكير والبحث والابتكار.
مع مرور الزمن، بدأ التعليم يتحوّل تدريجيا من ممارسة للحرية والمعرفة إلى سباق محموم للحصول على الشهادة. هذا التحوّل لم يكن نتاج ضعف إداري أو نقص في الإمكانات، بل نتيجة تحولات بنيوية وعوامل تاريخية وسياسية أعادت تعريف التعليم، ووضعته في خدمة السلطة والاقتصاد، بدل أن يكون خدمة الإنسان.
1.1 كيف نشأ هذا التحوّل تاريخيا؟
أ. من التعليم بوصفه جماعة معرفة إلى التعليم بوصفه مؤسسة
كانت البدايات الأولى للتعليم عائلية، مجتمعية، أو مرتبطة بالمعابد والزوايا والحلقات. وكان التعليم تجربة وجودية معرفية وروحية، لا يُقاس بمعايير خارجية، بل بقيمة الحكمة وعلاقة الطالب بالمعلّم.
ب. التحول الأول مع نشوء الدولة الحديثة في أوروبا (القرنين 17–18)
بدأ التحوّل الأول حين احتاجت الدولة إلى إدارة السكان، تنظيم القوى العاملة، ضبط السلوك، وبناء الولاء السياسي. فأنشأت “المدرسة الحديثة” بوصفها أداة للضبط والمعيارية، وهنا بدأ الانفصال بين التعلم والمعنى.
2.1 المدرسة الحديثة ونشأة الدولة البيروقراطية
لم يكن التحوّل في بنية التعليم حدثا تربويا منفصلا، بل كان جزءا من إعادة تشكيل كبرى للبنية السياسية - المعرفية.
منذ صعود الدولة الحديثة، بدأت المدرسة تأخذ دورا جديدا، لا يقتصر على تعليم الأطفال القراءة والكتابة والتفكير، بل يشمل تنظيم المجتمع وإعادة إنتاجه وفق نموذج الدولة المركزية.
أصبحت المدرسة جهازا لإنتاج الطاعة: الصف خط إنتاج، والمعلم رقيب، والبرنامج الدراسي أداة لضبط السلوك وتوجيه الفكر.
هذا النموذج يعكس ما لاحظه ميشيل فوكو في تحليله للمؤسسات، حيث لا توجد مؤسسة محايدة، فكلها تنتج أشكالا معينة من الطاعة والمعرفة.
هنا بدأ التعليم يفقد بعده الإنساني، وتحولت المدرسة من فضاء للمعرفة عبر الاكتشاف والتجريب إلى أداة للضبط والإخضاع الاجتماعي.
3.1 الثورة الصناعية وتحويل المعرفة إلى مهارة عمل
مع الثورة الصناعية، ربطت الدول الغربية بين التعليم وسوق العمل، فأصبح الهدف الأساسي للمدرسة إنتاج عمال مهرة لا مفكرين أحرار. لم تعد المعرفة هدفا، بل وسيلة لتشغيل الإنسان بكفاءة في خط الإنتاج. هذا هو جوهر مفهوم “التشييء التعليمي” (Educational Reification): تتحول المعرفة إلى سلعة، والمتعلم إلى مستهلك، والمدرسة إلى سوق مغلق تحكمه معايير الندرة والاحتكار.
نتيجة هذا التحوّل، أصبح الطالب يُقاس بقدرته على التكيف والإنتاجية، لا بقدرته على التفكير النقدي أو الإبداع، وأصبحت المنافسة معيار النجاح الاجتماعي، بينما ضاع معنى التعليم كفضاء للتأمل والتفكير والفهم.
4.1 النيوليبرالية وصناعة الامتحان
مع صعود النيوليبرالية في أواخر القرن العشرين، تكرس نموذج التعليم التنافسي عالميا. لم تعد المدرسة مكانا للمعرفة، بل أصبحت ساحة للسباق على الامتيازات: الدرجات، الشهادات، المقاعد الجامعية، وفرص العمل.
برزت ظاهرة الدروس الخصوصية، وتحول التعليم من حق عام إلى سلعة يمكن للمقتدر شراؤها، حتى أصبح الامتحان معيارا للفصل بين من يحق له النجاح ومن يستبعد.
أصبح التعليم في كثير من الدول نموذجا لما وصفه إيفان إليتش: «المدرسة تخلق الحاجة إليها بدل أن تلبي الحاجة إلى التعلم». أي أن المدرسة لم تعد وسيلة لاكتساب المعرفة، بل أداة لإعادة إنتاج الاعتماد على المؤسسة نفسها، وتحويل الطلاب إلى مستهلكين للمعرفة، لا منتجين لها.
5.1 النتائج الاجتماعية للتحوّل البنيوي
هذا التحوّل التاريخي البنيوي أفضى إلى:
ا. فراغ المعنى في التعليم: شهادات بدون وعي، تعلم بدون تفكير.
ب. إنتاج “مواطن موظف” قابل للتكيف مع متطلبات السوق، لكنه بعيد عن التفكير النقدي والمشاركة السياسية.
ج. تعميم التبعية للمعايير الغربية: إذ أصبحت بعض المناهج والممارسات التعليمية المحلية مقتبسة أو موجهة وفق أنماط خارجية، ما يمهّد الطريق لاحقا لاستلاب الهوية والثقافة المحلية.
د. زيادة التنافس والضغط النفسي على الطلاب، على حساب الفضول والرغبة في التعلم.
ثانيًا: النقد البنيوي للتحوّل في التعليم - فرييري، ديوي، وإليتش
لم يقتصر دور المفكرين التربويين والفلاسفة الاجتماعيين في نقد التعليم على العملية التعليمية فحسب، بل فصّلوا كيفية ارتباطها بالسلطة، بالاقتصاد، وبإعادة إنتاج الهياكل الاجتماعية.
ساهمت أفكار ثلاثة مفكرين: باولو فرييري، جون ديوي، وإيفان إليتش، في فهم التحوّل البنيوي للتعليم.
1.2 باولو فرييري: التعليم بين التحرر والقمع
أ. التعليم الإيداعي
رأى فرييري أن التعليم الحديث غالبًا ما يتحول إلى “نظام إيداعي”، حيث يُعامل المتعلم كوعاء فارغ تُسكب فيه المعرفة، دون مشاركة أو نقد. في هذا النموذج، يعاد إنتاج الهياكل الاجتماعية السائدة، ويصبح التعليم أداة لإدامة السلطة، لا لإطلاق حرية التفكير: «التعليم ليس محايدا، إنه إمّا فعل قمع أو فعل تحرير» (Paulo Freire, Pedagogy of the Oppressed, 1970).
ب. التعليم كأداة لتحرير الوعي
شدّد فرييري على أن الهدف الحقيقي للتعليم هو تحرير الوعي، بحيث يصبح المتعلم قادرا على التفكير النقدي، ومساءلة الواقع، وإعادة إنتاج المعرفة بما يخدم تحرير الذات والمجتمع. هذا يتطلب مناهج تعليمية مستندة إلى الغاية وخبرة الطلاب، لا مناهج فاقدة للمعنى ومفروضة من أعلى.
2.2 جون ديوي: المدرسة والحياة الواقعية
أ. التعليم تجربة حياتية
رفض ديوي الفكرة القائلة بأن المدرسة مجرد إعداد للحياة، بل رأى أن التعليم هو الحياة نفسها: «التعليم ليس إعدادا للحياة، التعليم هو الحياة نفسها» (John Dewey, Democracy and Education, 1916). أي انفصال للمدرسة عن الواقع الاجتماعي يؤدي إلى إنتاج متعلمين منفصلين عن أنفسهم وعن مجتمعاتهم.
ب. المناهج المفروضة: اغتراب الطالب
المناهج الجامدة المستوردة من الخارج تبعد الطالب عن هويته الحضارية وتجربته اليومية، وتفرض عليه فهم العالم وفق رؤية خارجية، مما يعمّق اغتراب الفرد عن هويته الثقافية والاجتماعية.
3.2 إيفان إليتش: المدرسة كمؤسسة احتكارية للمعرفة
أ. المدرسة تصنع التبعية
اعتبر إليتش المدرسة الحديثة مؤسسة احتكارية، لا وسيلة لتعلم المعرفة، بل أداة لإنتاج التبعية: «المدرسة تخلق الحاجة إليها بدل أن تلبي الحاجة إلى التعلم» (Ivan Illich, Deschooling Society, 1971).
ب. المعرفة كأداة للسيطرة
وفق إليتش، تسيطر المؤسسات التعليمية على تعريف المعرفة وتحدد من يستطيع الوصول إليها، وبذلك يصبح التعليم وسيلة للهيمنة السياسية والاجتماعية، لا أداة لتحرير الإنسان أو إنتاج وعي مستقل.
يشترك المفكرون الثلاثة في التأكيد على أن التعليم ليس محايدا، بل جزء من نظام لإعادة إنتاج السلطة. اليوم، يظهر هذا في شكل ما يُسمّى “الهيمنة المعرفية”، أي قدرة القوى السياسية والاقتصادية المهيمنة على تحديد ما يُعتبر معرفة صالحة، وكيف تُدرس، ولمن تُعطى.
وعليه، فإن فقدان روح التعليم ليس مجرد أزمة تربوية أو إدارية، بل أزمة سياسية ومعرفية عميقة. أصبح التعليم، في العديد من السياقات، أداة لتكريس الهيمنة، وإعادة إنتاج السلطة، وضبط الوعي، والتحكم في الهوية.
ثالثا: الاستلاب المعرفي واستعمار المناهج في العالم العربي - الإسلامي
1.3 استلاب المعرفة في الدول العربية - الإسلامية
- استنساخ المناهج الأجنبية
مع تصاعد العولمة، بدأت الدول العربية تعتمد مناهج غربية كنماذج جاهزة، أو تستقدم خبراء أجانب لصياغة البرامج غالبا تحت ذريعة “التطوير” أو “المواءمة مع المعايير الدولية”. لكن هذه المناهج لا تنسجم مع الواقع الاجتماعي والثقافي المحلي، بل تفرض:
• قيما تربوية مستوردة تضعف الهوية الحضارية والثقافية.
• رؤية للعالم وللذات تعكس سردية المستعمر.
• معيارا للنجاح يعتمد على الامتحان وليس على الوعي أو التفكير النقدي.
ب. معايير عالمية وتقارير دولية
في العديد من الدول العربية والإسلامية، أصبح التعليم يُقاس بمستوى توافقه مع المعايير العالمية مثل TIMSS (دراسة دولية تُجرى كل أربع سنوات لقياس مستوى تحصيل الطلبة في الرياضيات والعلوم للصفين الرابع والثامن، وتشرف عليها الرابطة الدولية لتقييم التحصيل التربوي IEA، وتصنف الطلبة في أربع مستويات: متقدم، عالي، متوسط ومنخفض)، وبرنامج التقييم الدولي للطلاب (PISA) الذي تشرف عليه منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، ويُطبَّق على طلاب عمر 15 سنة لقياس قدرتهم على تطبيق المعرفة في مواقف حياتية ونماذج مستمدة من التجارب الأوروبية، وليس فقط معرفة المقررات الدراسية.
هذه المعايير، على الرغم من تقديمها كأدوات قياس علمية موضوعية، غالبا ما تفرض معيارا غربيا للمعرفة والتفكير، ما يعزز الهيمنة المعرفية الغربية على العملية التعليمية المحلية.
ج. النتائج على الطلاب والمجتمع
• تراجع حضورالقضايا الوطنية والقيم المحلية في التعليم.
• اغتراب الطلاب عن هويتهم الحضارية والثقافية والاجتماعية.
• إنتاج مواطنين قادرين على التكيف مع السوق العالمي أكثر من قدرتهم على النقد أو المشاركة السياسية.
2.3 الحالة الفلسطينية: المناهج ميدان الصراع السياسي
أ. التدخل الإسرائيلي المباشر
في القدس الشرقية، تشرف إسرائيل على مراقبة وتعديل المناهج في المدارس العربية. تشمل التعديلات:
• حذف أو إعادة صياغة وحدات تاريخية عن التاريخ العربي والإسلامي، وعن النكبة والاحتلال والمقاومة.
• استبدال المفردات الوطنية بمصطلحات “محايدة” أو تدعو إلى “التعايش”.
• تهويد محتوى الجغرافيا والتاريخ بما يتوافق مع الرواية الإسرائيلية.
- الضغط الأمريكي والدولي
أصبح الاعتراف بالدولة الفلسطينية أو تقديم الدعم المالي للسلطة مرتبطا بضرورة تعديل المناهج الفلسطينية وفق ما يُسمّى معايير “اعتدال”، و” سلام”، و” تعايش”، و” إنسانية”، والتي تقتصر على المناهج الفلسطينية ولا تطال المناهج الإسرائيلية، وتفرضها مؤسسات دولية وغربية.
• الهدف: إعادة صياغة الهوية الوطنية عبر التعليم.
• التأثير: خلق جيل فلسطيني يُفقد جزءا من وعيه الوطني والسياسي والثقافي.
ج. استلاب الهوية
تغييرالمناهج الفلسطينية ليس مجرد تعديل تربوي، بل استلاب للوعي
• إعادة تعريف الهوية الوطنية الفلسطينية.
• تجريم المقاومة ضد الاحتلال باعتبارها عنفا وتعصبا.
• فرض سردية تُبرر الاحتلال أو تهدئ من حدة الصراع الرمزي بين الطالب والمحتل.
• تقييد قدرة التعليم على إنتاج وعي حر ومستقل.
د. توظيف المدارس كأدوات سياسة
المدارس الفلسطينية، تحت شروط الاحتلال أو التمويل الدولي، تتحول إلى مساحات لضبط الولاء المعرفي، فالطلاب لا يتعلمون فقط المناهج، بل يُعاد إنتاج الوعي السياسي وفق أجندة خارجية.
3.3 الاستلاب المعرفي: قراءة نقدية
من منظور النقد البنيوي:
• ما يحدث في فلسطين هو نموذج حي للهيمنة المعرفية للمستعمر، حيث لا يتم السيطرة فقط على الأرض، بل على إنتاج المعنى والمعرفة.
• رأى فرييري أن “التعليم الإيداعي” ينتج تبعية، ويتجلى ذلك عمليا في فلسطين، وفي عموم العالم العربي.
• حذر ديوي من انفصال التعليم عن الحياة الواقعية، إذ يؤدي ذلك إلى اغتراب الطالب عن تجربته الوطنية والثقافية وبيئته المحلية.
• أشار إليتش إلى أن المدرسة الحديثة تنتج التبعية بدل المعرفة، ويتجلى ذلك في الضغوط التي تمارسها إسرائيل والولايات المتحدة والدول الغربية على المناهج الفلسطينية، وغالبية المناهج في الدول العربية.
الاستلاب المعرفي في العالم العربي - الإسلامي، ولا سيما في الحالة الفلسطينية، تجسيد حي للتحولات البنيوية والسياسية. التعليم أصبح ليس فقط أداة لتلقين المعرفة، بل ساحة للصراع السياسي، وإعادة إنتاج السلطة، والسيطرة على الهوية والوعي.
رابعًا: نحو سيادة معرفية ومناهج تحررية
4.1 استعادة السيادة على المعرفة والمناهج
أ. تحديد السيادة المعرفية
• تمكين المجتمع وصانعي القرار من صياغة محتوى المناهج وفق القيم الحضارية والثقافية والتاريخية المحلية.
• تحديد أهداف التعليم بما يخدم الإنسان والوطن والمجتمع، بعيدا عن الضغوط الخارجية أو شروط التمويل.
• حماية حرية الفكر والتعلم من أي تأثير أيديولوجي أو سياسي خارجي.
ب. إعادة تعريف أهداف التعليم
• جعل التعليم وسيلة لبناء وعي نقدي وإبداعي، وليس مجرد نقل معلومات.
• الموازنة بين القيم الحضارية والإنسانية، وبين المعرفة الأكاديمية والمهارات الحياتية.
• الهدف النهائي: إنتاج مواطنين منتمين، مؤهلين للتفكير النقدي والابتكار والمشاركة والمساءلة.
4.2 مناهج تحررية: الخصائص والمعايير
أ. ربط التعليم بالمعنى والهوية الحضارية والخبرة الحياتية
• يجب أن تنبع المناهج من الهوية والواقع الاجتماعي والثقافي للطلاب.
• تعليم التاريخ والجغرافيا ينبغي أن يعكس الهوية الثقافية والتجربة الوطنية.
• الأنشطة التعليمية يجب أن تشجع على الملاحظة والتحليل والاستكشاف.
- التعليم النقدي والتحرري
• المناهج يجب أن تتيح للطلاب طرح الأسئلة، والبحث، والمناقشة، وإعادة التفكير.
• التركيز على التحليل النقدي للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وليس مجرد حفظ المعلومات.
ج. استقلالية المؤسسات التعليمية
• تفكيك أي هيمنة مؤسسية على المعرفة، ومنح المدارس مرونة أكبر لتكييف المناهج مع الواقع المحلي.
• تعزيز المشاركة المجتمعية في وضع المناهج.
• استقلالية المعلم كموجه وميسر للتعلم، لا كحارس للمعرفة.
4.3 التطبيق في السياق العربي والفلسطيني
• مراجعة المناهج المستنسخة من الخارج، وتكييفها لتتماشى مع الهوية الحضارية والثقافية والقيم المحلية.
• تطوير معايير تعليمية توازن بين المعرفة العالمية والهوية المحلية، مع تشجيع المشاركة الطلابية والمجتمعية.
• التصدي للضغوط الإسرائيلية والدولية، ورفض الامتثال للشروط، من خلال لجان وطنية مستقلة تضم خبراء، معلمين، وممثلين مجتمعيين.
• تطوير كتب مدرسية تعكس الهوية الوطنية والانتماء العربي - الإسلامي، والتاريخ الوطني الفلسطيني، والمقاومة الوطنية.
• دمج المعرفة العالمية مع السياق المحلي لتعزيز الوعي النقدي والهوية الوطنية.
4.4 آليات عملية للإصلاح
• إنشاء لجان وطنية مستقلة للإشراف على المناهج ومراجعتها دوريا.
• إشراك المجتمع: الأسرة، المعلمون، والمنظمات الثقافية في صياغة المحتوى.
• دمج التكنولوجيا لتسهيل التعلم التجريبي والنقدي مع حماية الهوية المحلية.
• تدريب المعلمين على طرق التدريس التحليلي والنقدي والابتكاري.
• قياس نجاح التعليم وفق معايير متعددة تشمل المعرفة، التفكير النقدي، القدرة على حل المشكلات، المشاركة المجتمعية، وليس فقط الامتحانات التقليدية.
4.5 النتائج المتوقعة
• تعزيز الهوية الوطنية والثقافية للطلاب.
• إنتاج جيل قادر على التفكير النقدي والمشاركة، والمساءلة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية.
• إعادة التعليم كفضاء للحرية والإبداع والوعي، وليس مجرد اختبار ومنافسة على الدرجات.
• مواجهة أي شكل من أشكال الهيمنة المعرفية أو استعمار المناهج، من خلال استقلالية القرارات التعليمية.
إصلاح التعليم لا يقتصر على تعديل أو تحديث المناهج الدراسية فقط، بل هو مشروع وطني تحرري، سياسي، معرفي وثقافي شامل. فالعودة إلى التعليم كمساحة للحرية والمعرفة تعني:
• إعادة بناء وعي حر ونقدي لدى الطلاب.
• استعادة السيادة على المناهج والقرارات التعليمية.
• تحقيق التوازن بين المعارف المحلية والعالمية.
• تمكين الطالب ليصبح عضوا فاعلا في مجتمعه، وليس مجرد متلق للمعلومات.
خامسا: الاستنتاجات الرئيسية والتوصيات الاستراتيجية
الاستنتاجات:
فقدان جوهرالتعليم الإنساني، وتحوّل التعليم من رحلة لاكتشاف المعرفة إلى سباق للامتيازات والامتحانات، وتحول المدارس إلى أدوات لإعادة إنتاج السلطة والطبقات الاجتماعية، بدل أن تكون فضاء للمعرفة والحرية والإبداع.
واستنساخ المناهج الأجنبية في بلادنا وفرض المعايير الدولية للهيمنة المعرفيّة والسياسية على شعوبنا. وتكثيف الضغوط الإسرائيلية والأمريكية والغربية لتغيير المناهج الفلسطينية لتكريس الاحتلال وإنتاج المواطن الفلسطيني اللامنتمي والخاضع والمطيع والباحث عن فرصة أي عمل تتيحها القوى المهيمنة.
البدائل ممكنة:
• إصلاح التعليم جزء من مشروع الإصلاح البنيوي الفلسطيني الشامل المستحق في المجالات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية.
• يتطلب الإصلاح تمكين الكادر التعليمي بالوعي الوطني والمعرفي، وتأمين مستلزمات عيشه الكريم، وتمكين الطلاب من التفكير النقدي والمشاركة المجتمعية، واستعادة السيادة على المناهج، ودمج الهوية المحلية مع المعارف العالمية.
• استعادة روح التعليم تعتمد على المجتمع، الاسرة، المعلم، الطالب، والمؤسسات الوطنية، وليس على التوجيهات الأجنبية.
التعليم بين أزمة المعنى وإمكان النهضة
إنّ استعادة التعليم العربي والفلسطيني لموقعه الطبيعي بوصفه فعلا حضاريا ومعرفيا ليس ترفا فكريا، بل ضرورة وجودية لمجتمعات تواجه واحدة من أعقد لحظات التحوّل في تاريخها الحديث. فالأزمة التي نعاينها اليوم ليست أزمة مناهج أو إدارة أو نقص موارد فحسب، إنها أزمة معنى، وأزمة مشروع، وأزمة إرادة، تعكس اختلالا بنيويا عميقا في علاقة الإنسان العربي والفلسطيني بذاته وبالعالم. لقد تحوّل التعليم في كثير من بلداننا إلى جهاز يعيد إنتاج البنية السياسية والاقتصادية القائمة، بدل أن يكون أداة لإعادة تشكيلها أو تجاوزها، فأصبح عاجزا عن إنتاج الوعي القادر على الفعل، وعن بناء الإنسان الذي يملك شروط التفكير والنقد والإبداع.
وفي عالم يعيد ترتيب موازينه بسرعة غير مسبوقة - حيث تتراجع المركزيات التقليدية، وتتفكك أنظمة الهيمنة المعرفية والاقتصادية الغربية، وتتقدم قوى جديدة بصيغ مغايرة للعلاقة بين الدولة والمجتمع - تغدو إعادة بناء التعليم في العالم العربي وفي فلسطين خصوصا، ضرورة استراتيجية لا تحتمل التأجيل. فالمجتمعات التي لا تستثمر في بناء عقلها الجمعي، ولا تستعيد سيادتها على المعرفة، ستظل عالقة في هامش التاريخ، مهما امتلكت من موارد أو رفعت من شعارات.
أما في الحالة الفلسطينية، فإن سؤال التعليم يمتد من كونه قضية تنموية، إلى كونه ركيزة من ركائز الصراع على الوجود. فالتعليم هنا ليس مسارا أكاديميا، بل ساحة مواجهة بين رؤية استعمارية استيطانية إحلالية تسعى إلى محوه وتفكيك وعيه وهويته، وبين مشروع تحرري يصر على أن يُعيد للإنسان الفلسطيني معناه، وقدرته على حماية وجوده وصون ذاكرته وصياغة مستقبله.
ولذلك فإن كل إصلاح تعليمي في فلسطين لا ينطلق من فهم دور المعرفة في معركة السيادة والهوية سيظل قاصرا عن إدراك طبيعة التحدي الوجودي الذي يواجهه الشعب الفلسطيني.
إنّ الخروج من الأزمة يقتضي إعادة تعريف وظيفة التعليم من الأساس: من جهاز تقني يهدف إلى الضبط الاجتماعي وإدامة الهيمنة، إلى فضاء يؤسّس للمعرفة بوصفها قوة تحرر، وللإنسان بوصفه غاية النهضة ومصدرها.
ولا يمكن لأي مشروع إصلاح أن ينجح ما لم يستند إلى رؤية حضارية تُدرك أن التعليم ليس قطاعا منفصلا، بل هو قلب العملية التاريخية التي تعيد للأمة وعيها بذاتها ودورها. فالتعليم الرابض على أرض بلا سيادة، أو المقيّد بعقل إداري بلا معنى، لا يمكنه أن ينتج إلا المزيد من التبعية وإعادة إنتاج الأزمة بصور أشد تعقيدا.
وعليه، فإن اللحظة العربية والفلسطينية الراهنة تستدعي جرأة في التفكير، وشجاعة في إعادة البناء، وتأسيسا لنهج جديد ينقل التعليم من موقعه الهامشي إلى مركز الفعل الوطني والحضاري.
ومع أن الطريق طويلة، فإن البدائل ممكنة، والتجارب العالمية شاهدة على قدرة الشعوب على انتزاع مستقبلها حين تستعيد سيادتها على المعرفة وتضع الإنسان في قلب مشروعها. ولنا في تجربتي ماليزيا وفنلندا خير مثال، فبلا تعليم يحمل معنى، ولا معرفة تؤسس للحرية، ولا وعي يدرك صيرورة التاريخ، لن يكون بإمكان أي مجتمع أن يكتب فصله القادم. لكنّ أمّة تستعيد قدرتها على التفكير والخلق ستتمكن، مهما اشتدّ الظلام، من فتح نافذة نحو المستقبل
التوصيات الاستراتيجية
ا. بناء الإنسان والمواطن الصالح
• تعزيز السيادة المعرفية والمناهج الوطنية.
• إنشاء لجان وطنية مستقلة لتطوير ومراجعة المناهج وحمايتها من أي ضغط خارجي.
• دمج التاريخ، الثقافة، والهوية الوطنية بشكل كامل في المناهج.
ب. تعليم نقدي وتحرري
• تصميم مناهج تشجع على السؤال والمناقشة وإعادة التفكير.
• ربط التعليم بالواقع الاجتماعي والاقتصادي للطلاب
• تعزيز التفكير النقدي والإبداعي كمعيار للنجاح، وليس الامتحان فقط.
ج. تمكين المعلم والطالب
• تدريب المعلمين على طرق التعليم النقدية والتحررية.
• إشراك الطلاب في عملية التعلم واتخاذ القرار داخل المدارس.
• تعزيز دور الأسرة والمجتمع في العملية التعليمية.
د. التوازن بين المعرفة والقيم
• تطوير منهج متكامل يوازن بين القيم الحضارية والإنسانية والمعرفة الأكاديمية والمهارات العملية.
• قياس نجاح التعليم وفق تأثيره على الوعي، التفكير النقدي، والمشاركة المجتمعية، وليس فقط الدرجات.
ختاما، يبقى السؤال الرئيس أمام شعوبنا وأمتنا:
هل نريد أن نخرج أشخاصا ينجحون في الامتحان فقط، أم مواطنون منتمون ومؤهلون يحمون الوطن وينجحون في الحياة؟
الإجابة على هذا السؤال تحدد مستقبل فلسطين وعموم الأمة، وليس فقط مستقبل التعليم.
فالتعليم ليس مجرد امتحان أو شهادة، بل هو روح تتشكل بها الأمة. هل سنسمح لها أن تفقد روحها، أم سنعيدها إلى قلب الحرية والمعرفة؟
