الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   26 تشرين الثاني 2025

| | |
حين تُختزل الظاهرة الكونية في مشكلات محلية
غانية ملحيس

 

أجدني أحيانا متورّطة في الكتابة خارج تخصّصي، غير أنّ بعض 

الموضوعات تُلحّ على الوعي ولا يمكن تجاهلها، خصوصا تلك التي تتصل بتشكيل وعي الأجيال العربية الفتية. من بين هذه الموضوعات تنامي ظواهر اجتماعية لا تقتصر على بلد دون آخر، بل تغزو فضاءنا العربي كلّه، وتستدعي من الباحثين وقفة نقدية جادّة.

 

انتشرت في الآونة الأخيرة مقالات تُعالج ما يسمّى بارتفاع نسبة العنوسة، وكأنّنا أمام أزمة محلية في مجتمعات ذكورية تتحيّز ضد النساء. ويستعين بعض المقالات بالأمثال الشعبية والموروث الاجتماعي لإثبات أنّ المرأة هي الضحية الأولى.

من بين المقالات التي استوقفتني، مقال الدكتور بسّام سعيد بعنوان "كلام بعيد عن السياسة" وقد لفتني أنّه حصد خلال أقل من أربع ساعات 50 تعليقا،  وهذا لافتٌ في الظرف الفلسطيني الذي تتصدّر فيه حرب الإبادة على قطاع غزة وعموم فلسطين الانتدابية المشهد كلّه، في ظلّ امتثال العالم لما يسمّى خطة ترامب للسلام وتشريعها بقرار مجلس الأمن 2803 الذي يستنسخ نموذج الانتداب، وإنْ تقلّصت مساحته إلى غزة وبهوية أمريكية بدل البريطانية، بعد أن تفوّق الخلف على السلف في القتل والسطوة والقوة . لكن كثافةالتفاعل مع المقال تكشف الحاجة إلى الالتفات إلى الأسئلة الاجتماعية الملحة ، حتى في لحظات التاريخ الأشد قساوة.

 

ورغم أن الظاهرة التي تناولها الكاتب اجتماعية بالأساس، فإنّ مقاربتها - في رأيي - تحتاج إلى إطار أوسع من القراءات المحلية المتداولة. فالظواهر الاجتماعية لا تُقرأ بمعزل عن تحوّلات الحضارة التي تُنتجها.

 

1. من ظاهرة عالمية إلى أزمة محلية

 

قدّم د. بسّام قراءة تتعاطف مع المرأة، وتنتقد اللغة التي تجعل من سنّ الزواج معيارا لقيمتها. وهذا موقف نقدّي مهمّ. لكنّ التركيز على أرقام تتعلق بالنساء فقط - مثل عبارة “45% عنوسة” - أو “مليون امرأة أردنية فوق 35 عامًا” - بافتراض أنّ تعداد هذه الفئة العمرية 2.2 مليون - يوحي بأنّ المشكلة تخصّ النساء وحدهن، رغم أنّ هذه النسب تقابلها نسب مماثلة بين الذكور، بحكم التوازن النسبي بين الجنسين. كما يوحي بأنّ الظاهرة محصورة في مجتمعاتنا. 

لكنّ الأرقام العالمية تقول غير ذلك: 

•   تراجع معدلات الزواج في أوروبا وأمريكا إلى أدنى مستوياتها منذ قرون.

 •   انهيار شبه كامل في معدلات الزواج والولادات في كوريا الجنوبية.

•   شيخوخة ديمغرافية واسعة في اليابان حيث يكثر العيش الفردي بلا شريك ولا أبناء.

•   وفي معظم الدول العربية، بما فيها الأردن، ترتفع نسب الطلاق مقارنة بحالات الزواج.

 

إذن لسنا أمام ظاهرة محلية متعلقة بالعادات وحدها، بل أمام تحوّل حضاري عالمي يُعيد تشكيل معنى الارتباط الإنساني ذاته.

وحين تختزل ظاهرة بهذا الاتساع في إطار محلي، يضيق المشهد، ويخسر الشباب فرصة فهم ما يجري للعالم من حولهم.

 

 

2. الحاجة إلى تجاوز التفسيرات الجزئية

 

تميل العديد من القراءات إلى حصر أسباب العزوف عن الزواج في:

•   غلاء المعيشة.

•   تعليم المرأة.

•   عمل المرأة واستقلالها الاقتصادي.

 •   تحرّر المرأة أو تغيّر أولوياتها.

ورغم أنّ هذه العوامل حاضرة بالفعل، فإنّها لا تمسّ جوهر التحوّل. كما أن التركيز عليها قد يُشعِر القارئ وكأنّ المشكلة مرتبطة بالنساء أو بالموروث الثقافي وحده.

بينما المسألة أعمق من ذلك بكثير: نحن أمام اختلال بنيوي في عالم الحداثة المادية لا في خيارات الأفراد.

 

3. البعد الحضاري للظاهرة: حين يتغيّر معنى الوجود الإنساني

 

لفهم ظاهرة تراجع الزواج عالميا، لا بدّ من النظر إلى ثلاث تحوّلات كبرى شكّلت الإنسان المعاصر:

 

ا: تسليع الإنسان والعاطفة

 

حين تُقاس القيمة بالاستهلاك والإنتاج، تتحوّل العلاقات إلى معاملات، والشريك إلى “خيار قابل للتحديث”. عندها يضمحلّ البعد الوجودي للارتباط.

 

ب: سيطرة العقل الأداتي

 

العقل الذي يقيّم كل شيء بمنطق الجدوى والكلفة والمنفعة، امتد إلى العلاقات الحميمية:

هل الوقت مناسب للزواج؟ هل المكسب أكبر من الخسارة؟ هل العلاقة تضيف إلى مستوى الحياة؟

بهذا يتحوّل الزواج إلى مشروع اقتصادي أكثر منه قرارا وجوديا.

 

ج: فقدان الإحساس بالغاية

 

حين يغيب سؤال المعنى - لماذا نرتبط؟ ولماذا نبني عائلة؟ - تنهار الحاجة إلى الآخر، ويتحوّل العيش الفردي إلى نمط وجودي طبيعي.

 

هذه الديناميات تتجاوز الأردن أو فلسطين والعالم العربي، وتمتد إلى بنية الحضارة الحديثة نفسها التي أعادت تشكيل العالم

 

4. أين تكمن المشكلة حقا؟

 

 المشكلة ليست في:

المرأة،

ولا الرجل،

ولا العادات،

ولا التعليم،

ولا حتى في مصطلح “العنوسة”.

 

المشكلة في المنظومة الحضارية التي:

•   أعادت صياغة الإنسان بوصفه فردا مستقلا مكتفيا بذاته.

•   أعادت تعريف العلاقة بوصفها اتفاقا قابلا للمراجعة لا مشروعا وجوديا.

•   وحوّلت الزمن والعاطفة والجسد إلى سلع للاستهلاك.

 

وحين تُقرأ الظاهرة خارج هذا الإطار، تبقى التحليلات على سطح المشكلة لا في عمقها.

 

5. نحو قراءة تساعد الشباب على الفهم لا على الالتباس

 

ارتفاع سنّ الزواج أو العزوف عنه ليس “أزمة نساء”، ولا “تقصير رجال”، ولا “غلاء معيشة” فحسب، إنه علامة على تحوّل المعنى في الحضارة المعاصرة.

 

ولا يمكن الوعي بهذا التحوّل من دون استعادة الأسئلة التي تخلّت عنها الحياة الحديثة:

•   ما معنى وجود شريك في حياة الإنسان؟

•   ما غاية العائلة؟

•   ما معنى الامتداد؟

•   ولماذا نختار أن نعيش مع آخر؟

•   وما معنى الوجود الإنساني نفسه؟

من دون هذه الأسئلة تصبح كل قراءة - مهما كانت نياتها صادقة - قراءة جزئية لا تكتمل إلا بوضعها في سياقها الحضاري الأوسع.

 

إن قراءة د. بسّام سعيد تفتح بابا مهما لنقاش اجتماعي ضروري، غير أنّها تمثّل مقاربة واحدة من بين مقاربات عديدة ممكنة. والانفتاح على الإطار الحضاري الأوسع لا يناقض هذا الطرح، بل يسهم في مراكمة وعي يحتاجه جيل شاب يبحث عن رؤية تساعده على فهم الظواهر في سياقها العالمي لا في حدودها المحلية.

 

 

مشاركة: