الصديق العزيز يحيى بركات،
بداية أعبرعن تقديري لمقالك المعنون “ترامب يعيد ترتيب العالم… ونتنياهو يبحث عن مخرج”، وإعجابي بأسلوبك الإبداعي في تناول تعقيدات السياسة بشمولية وسلاسة تسهّل على القارئ العادي الإحاطة بما يجري في عالم يختل توازنه بتسارع غير مسبوق.
ومع أن الصورة تبدو وكأنها مرسومة بيد رجل واحد - ترامب الذي يتصرّف كما لو أنه يمسك الكوكب بقبضته - إلا أن الحقيقة أوسع من ذلك بكثير.
فهذا الرجل الذي يقدّم نفسه للعالم كصانع سلام، يواجه داخل بلاده مآزق جدية، ومؤسسات لا تُدار بتغريدة، ومحاكم لا تخضع لرغباته، ورأي عام قادر على تغيير المشهد بشكل يغايرالتوقعات. يدلل عليه خروج سبعة ملايين أمريكي في 2700 مدينة أمريكية وبعضهم من قاعدته الانتخابية في 18/10/2025 بمظاهرات تحت شعار " لا ملوك"، وفوز زهران ممداني في 4/11/2025 بانتخابات رئاسة بلدية نيويورك، مركز جماعات الضغط، وعاصمة المال، والسلطة، والقوة.
ترامب الذي يرسم خرائط جديدة "للشرق الأوسط" وللعالم، ويشعل فتيل الحرب في فنزويلا التي قد يطال لهيبها بلاده، هو نفسه الذي لا يستطيع ضبط خريطة الانقسام المتنامي داخل حزبه وبلده، ولا التحكم بنتائج تكرار المغامرات العسكرية الأمريكية، والتي كثيرا ما انقلبت على أصحابها.
هو تاجرعقارات برع في استخدام أموال البنوك بدلا من المغامرة بأمواله الخاصة، ووظف الإعلام ليس للشهرة فقط، وإنما كأداة اساستراتيجية للتسويق، وامتهن إعادة التفاوض على العقود لتغيير الشروط، واستخدم قانون الإفلاس التجاري لحماية ثروته الشخصية من عواقب مغامراته العقارية. فضلا عن الاستفادة من الامتيازات الضريبية لتعظيم ثروته. (فالقانون كما هو ثابت ليس مجرد أداة للعدالة، بل هيكل اجتماعي يعكس موازين القوى. والانحياز لصالح المتنفذين يظهر في النصوص نفسها، ويزداد عند التطبيق إذا توفرت الموارد والنفوذ). واستغل موقعه السياسي للافلات من المساءلة (استفاد جزئيًا من الحصانة القانونية أثناء الرئاسة). ويمارس السياسية الداخلية والخارجية، بعقلية الصفقات.
لكن المقامر مهما بدا واثقا، لا يملك الورقة الرابحة دائما.
أما نتنياهو- الذي تمثل بلاده أمام محكمة العدل الدولية بشبهة ارتكاب إبادة جماعية اقرت المحكمة بتوفر مؤشّراتها، وتعطل الولايات المتحدة الأمريكية صدور قرار الاتهام منذ نحو عامين- وتتجول طائراته بلا خوف من عقاب فوق سماء بلادنا العربية – الإسلامية الممتدة. فهو مريض مأفون بداء العنصرية والتفوق على جميع الأغيار. يمثل أمام القضاء الإسرائيلي منذ سنوات بشبهة الفساد والتربح من الموقع، ومدان ومطلوب للاعتقال من محكمة الجنايات الدولية لإرتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ويبدو كمن يسابق الزمن لا لينقذ المشروع الصهيوني، بل ليسرع نهايته. فلم تصمد عبر التاريخ إمبراطورية قامت على حد السيف.
والدولة الصهيونية التي تم تخليقها كدولة “يهودية” و” وظيفية” في آن واحد، تتحوّل اليوم إلى دولة مارقة منبوذة، وعبء على نفسها وعلى يهود العالم، وعل حماتها وداعميها، منذ أن تكشفت حقيقتها الفاشية، التي بات استمرارها يهدد عموم البشرية.
دولة تبيد الشعب الفلسطيني وتجوعه في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس والنقب والجليل، وتنشر الموت في لبنان وسوريا، وتهدد كل الآخرين. لكنها في الوقت ذاته محاصرة بثلاثة أشياء:
خوف يزداد، شرعية تتآكل، وتحالفات تتراجع.
والمفارقة أن كل خطوة تُقدَّم كقوة تكشف هشاشة أعمق، وكل حرب تُطلق بحجة “الأمن” تفتح بابا جديدا على عدم الاستقرار.
ومع كل هذا، يبقى "الشرق الأوسط" ليس مجرد ساحة تُلقى فيها الخطط، بل مكانا يعيش فيه أهله، لهم الحق في المستقبل وفي القرار، وفي أن يكون لهم الدور الرئيس فيما يُصنع فوق خرائطهم.
وهنا يأتي الأفق الجديد: أن التغيير، مهما بدا بعيدا، لا يصنعه ترامب، ولا نتنياهو، ولا غرف القرار المغلقة. بل تصنعه إرادة الشعوب، وتحوّلات الوعي، وحقيقة أن العالم يتغيّر بسرعة أكبر من قدرة اللاعبين القدامى على التكيّف معه.
فالشعوب التي وُضعت على الهامش تعود إلى المتن، والقضايا التي حاول البعض طيها تعود لتكتب نفسها.
ولعل أهم ما في هذا الزمن، ليس أن القوى النيوليبرالية المتنفذة تعيد ترتيب المنطقة والعالم، بل أن شعوب المنطقة والعالم، بما في ذلك الشعب في الولايات المتحدة وعموم الدول الغربية، بدأت تفهم أن لها دورا فاعلا في إعادة ترتيب العالم الذي تعيش فيه، وتتهيأ للقيام به.
